القائمة

اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس

شارك المقال

في أعماق النفس البشرية، تختبئ تحديات نفسية قد يصعب على الآخرين فهمها، وإحدى هذه التحديات هو اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس. تخيل أنك تعيش في عالم يتغذى على الشك، حيث تتحول كل نظرة عابرة، وكل كلمة عادية إلى احتمالات خفية للتهديد. هنا، يكون الإدراك مضطربًا، فتتداخل مشاعر الخوف مع الحساسية الشديدة، مما يجعل الشخص يعيش حالة مستمرة من الحذر وعدم الثقة. هذا الاضطراب ليس مجرد تقلبات عابرة؛ إنه عالم كامل من الأفكار التي تجتاح العقل، لتخلق متاهة من المشاعر المعقدة والرغبة في الانسحاب والعزلة.

ما هو السر وراء هذا الشعور العميق بعدم الأمان؟ ولماذا يعاني البعض من تداخل هذين العنصرين المتناقضين من الشك والحساسية؟ في هذا المقال، سنغوص بعمق في طبيعة هذا الاضطراب، ونكتشف معًا آثاره النفسية والاجتماعية على حياة الفرد.

تعريف اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس

هو نوع من اضطراب الشخصية البارانويدي في نموذج الاكتئابي،(Kretschmer’s sensitive personality) وصفه إرنست كريتشمر عام (1919). يتميّز بالتطور التدريجي للأفكار الاضطهادية على خلفية حسّاسة سابقة للمرض، تتمثل في سمات الانفعالية العالية والوهن النفسي.

يتميز المصاب باضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس بعدم المبالغة في تقدير الذات عكس ما هو عليه في اضطراب الشخصية البارانويدي في نوعيه (القتالي، وبارانويدي الرغبة).

يجمع هذا النوع بين الشك والحساسية العالية؛ بحيث يقدم أعراضا من الشخصية البارانويدية زائد أعراضا للشخصية الوهنية (psychasthenic).

يبدي المريض مستوى عالي من الفخر والكبرياء المقنع بعدم الرضا عن الذات، والشعور بالقيم والأخلاق، مع انسحاب اجتماعي ومعاناة صامتة وحساسية عالية وانفعالية شديدة، والوهن والتشاؤم.

يصعب غالبا تشخيص اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس؛ لأنه يأخذ أشكالا مختلفة ومتعددة من مريض الى الآخر، وتداخل أعراضه مع اضطرابات أخرى.

المراقبة في اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس

تطوّر اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس  

يتطوّر هذا الاضطراب بالتدريج بعد حالات متكررة من الإذلال أو الاحباط ليطور هذيانات يشبع من خلالها احباطاته مؤقتا أو يتجازها ويهرب منها. هذه الحالة تربك وتزعج المريض وعائلته ومحيطه الاجتماعي، وتسبب له مشاكل مهنية وعاطفية، وانعزال اجتماعي وانفصال عاطفي عنهم، مع احتمالية تطوير نوبات اكتئابية حادة وسلوكيات خطيرة كمحاولات الانتحار.

الهذيانات في الاضطراب البارانويدي الحساس

يرتبط اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس في المقام الأول بظهور الهذيانات المتعلقة بالصراعات الداخلية بين الأخلاق والجنس (حسب وصف كريتشمر). بحيث يتولد لدى المريض مشاعر الذنب المتراكمة بسبب ضغط الأخلاق والمعايير الاجتماعية الخاصة بالحياة الجنسية التي ترتبط غالبا بالاحساس بالذنب. وتبدأ الهذيانات في الاضطراب البارانويدي الحساس في الظهور بعد عيش تجربة الإذلال.

تكون الهذيانات معقدة جدا؛ بسبب نوبات الاكتئاب والقلق التي تظهر وكأنها وساوس، وترتبط بمشاعر العجز والفشل، ويكون تطورها أقل، وغير مزمن كما هو الحال في حالات الاضطراب البارانويدي الأخرى أين يكون الهذيان منظما ومزمنا. ومن المحتمل والمرجح أن تعاود الهذيانات الظهور مرة أخرى بعد تجربة احباط جديدة.

كما يمكن أن تظهر حالات اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس هذيانات مختلفة غير مستقرة، يغلفها مشاعر الأخلاق والحكمة والاحساس بالذنب على رأسها هذيانات العلاقة. قد تتوافق هذه الهذيانات مع أنواع الفصامات أو الذهانات الهلوسية المزمنة، التي تكون انفصالية حادة ويشكل فيها الانفصال عن الواقع المظهر الاكلينيكي المسيطر.

سيميائية اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس

أشار ج. شاربونو (2007) إلى أناضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس هو اضطراب غير شائع في شكله النموذجي الذي قدمه كريتشمر، والذي ارتبط بسمات وخصائص معينة للخطاب الأخلاقي في عصره، لاسياما الحرية الجنسية المقيدة بضغط قيم الكنيسة.

اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس يظهر في الفحص النفسي بانتظام في سياق الاكتئاب الشديد، وخاصة في الاكتئاب المقاوم الذي يرتبط غالبا بسمات شخصية. بحيث يظهر الاضطراب البارانويدي الحساس في شكل اكتئاب مزمن، يجمع بين الخمول والوهن الحاد والمزمن من جهة والتأملات  والأوهام من جهة ثانية.

يواجه المصاب بهذا الاضطراب الإخفاقات العلائقية والعاطفية بشكل مؤلم وصعب للغاية

معايير تشخيص الاضطراب البارانويدي الحساس

 نشخّص الاضطراب البارانويدي الحساس اذا قدّم الشخص ثلاث أعراض على الأقل مما يلي:

العزلة الاجتماعية وانعدام الثقة:

لا يكوّن الشخص صداقات، ولا يشارك في النشاطات الجماعية إلا نادرا، ولا يتواصل لفظيا الا قليلا، حتى يظن البعض أنه شخص خجول، لكنه يفسّر البيئة بطريقة سلبية بسبب الشك وعدم الثقة، ولا يتسامحون مع أخطاء الغير اتجاههم.

التقدير العالي للذات :

غالبا ما تكون حالات اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس مقنعا بعدم الرضا عن النفس، لذا لا يمكن رؤيته أو قياسه، وفي حالة نوبات الاكتئاب يختفي تقدير الذات العالي كلية. وفي حالة التفكك الذهاني يظهر هذا التقدير العالي للذات من خلال الهذيانات التي يلعب فيها المريض دورا مهما للغاية في الحياة.

الوهن والحساسية الشديدة:

يعاني المصاب باضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس من الوهن والعياء النفسي والحساسية العالية. فنجده مثلا يؤجل اتخاذ قرارات هامة أو حتى قرارات بسيطة وعادية إلى اليوم التالي بسبب حالة الانهاك النفسي.

الحس العميق بالأخلاق والقيم :

والذي قد يصل في بعض الأحيان إلى درجات عالية جدا تجعله يدقق في كل التفاصيل المرتبطة بذلك. ولأجل ذلك ينغمسون في التأمل والاستبطان وقضايا الضمير الأخلاقي، ويبدون في الأمر صرامة وجدية.

القابلية للتأثر والاحتفاظ بها:

يعيش الشخص التجارب المحبطة والفاشلة وحتى الاهانات بكثير من الألم، الذي قد يستمر لأسابيع طويلة. ويمكن أن يسبب لهم الأمر اجترار الأحداث وتضعفهم لفترة طويلة.

أنواع الهذيانات في اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس

حدّد إرنست كريتشمر أربعة أنواع من الهذيانات:

هذيانات العلاقة

هو النوع الأكثر شيوعا من الهذيانات في اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس، يتميز بالانتظام، قريب جدا من الهوس بالتأمل.  هو هذيان غير انفصالي بل تفسيري. المريض يدرك الأشياء بشكل صحيح لكنه يفسرها بشكل غير صحيح، لذلك فهو لا ينتمي إلى فئة الفصامات.

على سبيل المثال، يتم تفسير كلمات أو إيماءات من حوله على أنها ازدراء أو تهديدات ضده. ويبني أفكارا هذيانية منظمة، ويفسّر الحوارات التي يسمعها من حوله، ومقالات الجرائد والصحف،  والمواقف المختلفة لأفراد أسرته أو جيرانه وغيرهم.

يتم تنظيم هذيان العلاقة من خلال آلية (الاحتفاظ الواعي بمجموعات من التصورات المشحونة بالتأثيرات) وهي آلية نفسية-مرضية تحافظ على حالة من التوتر النفسي والجسدي اللآواعي يحدث تباطئا عاطفيا يؤدي ويسهل الدخول في نوبات اكتئابية. مثلا، ينبني الهذيان على الصراعات في المجال الأخلاقي الجنسي أو في المجال المهني.

يمكن بسهولة تمييز هذيان العلاقة عن الأشكال الأخرى من هذيانات الشك العاطفي أو الهذيان التفسيري عند حالات اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس من خلال أولا، سرعة استجابة هذيان العلاقة اتجاه الأحداث (التي يتعرف عليها المريض بسهولة ويسترجعها)، وثانيا، غلبة الوهن النفسي على المريض وغياب المشاكسة والابتزاز البارانويدي.

موضوعات هذيانات العلاقة الشائعة:

  • الأفكار الاضطهادية (الآخرون يريدون أذيته والحاق الضرر به)، أو الاحتقار، أو إحساس المريض بأنه مراقب.
  •  أفكار الاعتداء على القيم الأخلاقية أو الدينية.
  • أفكار الصراع بين القيم الأخلاقية أو الدينية وممارسة الحياة الجنسية.
  • أفكار ذات دلالة اكتئابية كتلك المتعلقة بفقد الموضوع أو فقد حب الموضوع أو الاحساس المزمن بالذنب.

التشخيص الفارقي بين هذيانات اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس والفصامات يظهر في غياب أو ندرة (باستثناء الهذيانات غير المستقرة) الهلاوس البصرية أو السمعية في الاضطراب البارانويدي الحساس، وظهورها في الفصامات.  

الهذيان الانفصالي الحاد

يعتبر كريتشمر هذا النوع أقصى درجات هذيان العلاقة، وسماه بالانفصالي لغياب المنطق بين أفكار المريض المكونة للهذيان. يصل الهذيان في العلاقة حسب كريتشمر إلى أعلى درجاته عندما يتحول الاضطراب البارانويدي إلى هذيان انفصالي حاد. بحيث يظهر هذا الهذيان خلال مرحلة قصيرة من نوبة الذهان الخطيرة، يفقد معها المريض قدرات الادراك الحسي.

يرافق هذا الهذيان توتر نفسي شديد وحالة انفعالية شديدة بمحتوى من التصورات الجامدة تؤثر مباشرة على الجسم، وتنقل أفكارا ومشاعر غريبة.

يؤدي هذا الهذيان الى تفكك الروابط العلائقية ويحوّل اليأس وخيبات الأمل الى هذيان العظمة. صيغتها العرضية تحمل غياب الوعي بتجربة الهذيان، وتذبذب الإحساس بالواقع، وغياب أو عدم وضوح الموقف العاطفي والانفعالي، مما يجعل التواصل الاجتماعي مستحيلا.

يعتبر هذا النوع من الهذيان الانفصالي الحسي خطيرا جدا على المريض الذي لا يعي التجربة الهذيانية ويعيشها على أنها حقيقة، فينفصل عن الواقع. وهو ما يجعل الاستشفاء الاستعجالي للحالة ضروريا جدا.

 عصاب العلاقة الحساسة

أدرج إرنست كريتشمر تحت هذا النوع جميع الحالات التي تظل فيها قيمة حقيقة أفكار العلاقة أقل من الحد الذهاني أو الانفصالي.

يشكل عصاب العلاقة الحساسة مرحلة أولية ممهدة لظهور أمراض عقلية، وقد تقوم هذه المرحلة بتطوير عصاب العلاقة الثانوية الذي وبعد زوال هذيان العلاقة، يترك آثارا تحمل استعدادا للانتكاس الذهاني. هذا النوع -يقول كريتشمر- يكوّن لدى الفرد استعدادا يحتاج فقط إلى دافع ملح وقوي ليظهر في البداية، لكنه بعد ذلك يصبح أكثر قابلية للظهور حتى مع الدوافع الضعيفة والبسيطة من الحياة اليومية.

النوبة الهذيانية المتعلقة بالوساوس

هذا النوع الهذياني نادر الظهور في الاضطراب البارانويدي الحساس، بحيث يصف كريتشمر بأنه واجهه لمرة واحدة خلال كل مساره المهني. تشكل النوبة الهذيانية المتعلقة بالوساوس حالة من الانفجار والعصبية الخطيرة، وتنشأ منها أفكار هذيانية بشكل مفاجئ على فترات قصيرة، تشبه عصاب الوسواس القهري من حيث حدة الأفكار والوساوس.

علاج اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس

العلاج الدوائي:

لا يزال العلاج الدوائي لهذيانات العلاقة في اضطراب الشخصية البرانويدي الحسّاس محل نقاش المختصين في الطب النفسي: اذ يرى بعضهم أن يتم الجمع بين مضادات الاكتئاب ومضادات الذهان لعلاج الهذيانات والاكتئاب معا. في حين يرى آخرون الاكتفاء بمضادات الاكتئاب .

العلاج النفسي:

يساعد العلاج النفسي الجماعي هؤلاء المرضى الذين يعانون أيضا من الاكتئاب والقلق، ويرون أنفسهم مستبعدين من المجتمع، ويحطون من قدر أنفسهم، على إيجاد الهدوء في حياتهم وإعادة صياغة علاقاتهم الاجتماعية والأسرية. كما يمكن أن يساعد العلاج المعرفي السلوكي في فهم محتوى الأفكار وتعديل السلوكيات الاجتماعية، وتحسين العلاقة مع الذات.

قائمة المراجع

  • C. Charbonneau. C  (2007), Approche phénoménologique de la paranoïa  sensitive de E. Kretschmer. Le cas Edgar Charles. Pratiques psychologiques. Fasc : 2. Pages 153-167
  • R. ARNAUD-CASTIGLIONI, J.-C. FISHER, P. RAYMONDET, P. CALVET, J. C. SCOTTO (1988), Les délires instables, Psychologie médicale, 20,10,. Pages 1431-1433
  • Kretschmer, E.Paranoïa et sensibilité (traduction française de la 3e éd. allemande), éd. PUF, Paris, 1963.Google Scholar
  • Lanteri-Laura, GTevissen, R.EMC de Psychiatrie, Les psychoses délirantes chroniques en dehors de la schizophrénie. 1997, 37-299 D10.Google Scholar
  •  

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *