البارانويا والجنسية المثلية، حيث تعتبر حالة الرئيس شرايبر من أشهر الحالات التي تحدث عنها التحليل النفسي في تفسير اضطراب البرانويا، وفي فهم مضمون الهذيانات، بداية مع تحليل سغموند فرويد، ثم مع العديد من النفسانيين على رأسهم الفرنسي جاك لاكان. أحدثت هذه الحالة تطورا هاما في النظرية التحليلية وفي الطب النفسي بشكل عام. ورغم ذلك فان القارئ لهذه الحالة في أدبيات التحليل النفسي يلاحظ عدم وجود تسلسل منهجي ومنطقي في عرض تفاصيلها.
تجدر الاشارة الى أن سغموند فرويد لم يلتقي بالحالة شرايبر أبدا، بل قام بتحليل سيرته الذاتية المنشورة عام (1903) في أربعمائة صفحة، تحت مسمى (ذكريات مريض عصابي)، وصف فيها شرايبر مضمون هذياناته، ومضمون اضطرابه العقلي-الذهاني.

من هو الرئيس شرايبر؟
دانييل بول شرايبر هو المريض الأكثر ذكرا في تاريخ الطب النفسي، عاش في الفترة الممتدة من (1842-1911)، كان قاضيا، ثم رئيسا للمحكمة العليا بألمانيا، ومن هنا جاءت تسمية الحالة بـالرئيس شرايبر.
ينحدر دانييل بول شرايبر من عائلة بروتستانتية في شمال ألمانيا، تتميز بوجود عدد كبير من المثقفين والإصلاحيين المشهورين في كل جيل منذ القرن السابع عشر، وربما كان أشهرهم والده، دانييل جوتفريد موريتز شرايبر. هذا الأخير طبيب مشهور ميّز نفسه في عصره بالعديد من الأعمال حول أهمية التدليك الطبي ، والذي رأى أنه يجب أن يكون جزءا لا يتجزأ من تعليم الأطفال، وكان يمارسه في عيادته الخاصة بالأطفال، كما طوّر أجهزة تهدف إلى محو العيوب الجسدية التي يمكن أن يصاب بها الأطفال عندما يكبرون.
كان شخصية قوية وبارزة في العالم الاجتماعي وفي عالم التعليم، كما أنه مصدر إنشاء حدائق التخصيص التي حققت نجاحًا كبيرًا في ألمانيا لدرجة أن هذه الحدائق لا تزال تحمل اسمه حتى اليوم. توفي عن عمر يناهز الثالثة والخمسين عام 1861، عندما كان دانييل بول في عمر التاسعة عشر.
دانييل بول شرايبر هو الثالث بين خمسة أطفال، وكان لديه أخ أكبر منه بثلاث سنوات انتحر بطلق ناري في الثلاثينات من عمره، وأخت أكبر منه وشقيقتان أصغر منه، اعتنت إحداهما به طيلة فترة مرضه. تميّز دانييل بول بمستواه اللغوي العالي في اللغة الألمانية وقدراته الفكرية المميزة أيضا، وقد حصل على وسام الاستحقاق (فارسًا) في عام 1888؛ و في عام 1889 أصبح رئيسًا للمحكمة الساكسونية وتم تعيينه في المحكمة العليا في عام 1893. تميزت سيرته الذاتية كما وصفها فرويد بقدرته المذهلة على مراقبة وتحليل الذات.
نشأ دانييل بول في بيئة ثقافية تقدّر الديناميكية والفكرية، وتمارس العديد من المهام الاجتماعية البارزة. بعد وفاة والده وانتحار أخوه الأكبر وقع على عاتقه استمرار نسل ونسب عائلته. بعد زواجه بعدة سنوات اكتشف أنه لا يستطع إنجاب أطفال، وهو ما كسر استمرارية نسبه اللامع.
تاريخ الحالة المرضية للرئيس شرايبر
بداية الاضطراب:
مع عام (1884) بدأت إشارات المرض ( البارا نويا والجنسية المثلية) الأولى تظهر بعد وقت قصير من فشله في انتخابات الرايخستاغ، في شكل أعراض لتوهم المرض مع أفكار انتحارية، وذهب أخرون ممن حللوا مذكراته الى أن الأعراض الأولى للبار نويا كانت في شكل أرق مزمن ووساوس حادة تخص المرض والاكتئاب، وهو ما ولّد لديه أفكار ومحاولات انتحارية. استمرت هذه الاعراض لمدة عام تقريبا، أدخل على اثرها الى العيادة الجامعية للأمراض العصبية في لايبزيغ تحت اشراف الطبيب بول فليكسج. كانت هذه النوبة الأولى بدون مظاهر ما ورائية ومن دون هلاوس.
تطور الحالة:
تسع سنوات بعد ذلك، وبعد تعيينه رئيسا لغرفة محكمة الاستئناف بدريسدن عام (1893) وبسبب غياب زوجته عنه (بسبب ذهابها في رحلة بناء على توصية من طبيب زوجها الطبيب بول فليكسج) عانى من انهيار عصبي حاد، ليتم إيقافه عن العمل مؤقتا، ويدخل للمرة الثانية الى وحدة الطب النفسي بسبب نوبة ذهانيه حادة بالعديد من الهلوسات( البارا نويا ) .
كان يرفض تناول الطعام، ويقضي فترات طويلة في حالةِ سكون تام وذهول. وكان مقتنعا أنه يحتضَر ويواجه أزمةٍ قلبية، واشتكى من تليُّن الدماغ، وكان يقول أنه مصاب بالطاعون، وأراد الاستعانة بخادم ليحفر قبرا له مقابل أجر. كان يظن أنه مات وتحلل وفي حالة تمنعه من أن يدفن. كما اشتكى من أن قضيبه قد انتُزع وأصرّ على أنه امرأة، مما زاد في حالة هيجان والصياح بالشتائم في كثير من الأوقات.
ووصف في مذكراته أنه كان يقضي وقته في حالةٍ حزن واكتئاب شديد، وتسيطر عليه أفكار الموت، وقد حاول عدة مرات انهاء حياته بالانتحار، خاصة بعدما وجد نفسه (كما يصف في مذكراته) في زنزانة مجهزة للمصابين بالجنون…لقد قمتُ بمحاولة فاشلة لشنق نفسي على هيكل السرير باستخدام الملاءة. كنتُ واقعًا بالكامل تحت تأثير فكرة أنه لم يتبقَّ شيء أمامي، ولم أعد قادرًا على النوم بواسطة فنون الطب إلا الانتحار. كنت أعلم أن هذا غير مسموح به في المصحات العقلية، لكني كنت أعيش تحت وهم أنه عندما تُستنفَد كل المحاولات للعلاج، يُطلق سراح المريض من المصحَّة فقط لوضع نهاية لحياته إما في بيته وإما في مكان آخر.
بعد فترة قصيرة أخذت الوساوس تتخذ طابع هذيان الشك والارتياب، وبدأ شرايبر ينسب معاناته لمعجزات إلهية موجهة إليه بنوايا عدوانية، نبعت في البداية كما يقول من روح طبيبه النفسي فلكسيج، ثم من الله.
خروجه من المصحة:
عام 1900، يخرج من المصحة النفسية ويباشر في كتابة مذكراته.
أشارت عديد التفسيرات النفسية لحالة شرايبر إلى وجود صلة بين اللحظات الرئيسية في حياته المهنية العامة – تعيينه في منصب رفيع المستوى – ونوباته الذهانية، ووجود صلة أيضا بين انهياراته العصبية والحالة الضغط النفسي التي كان يتعرض لها. كما أثّر غياب زوجته في ظهور تخيلات أنثوية سلبية عندما يُطلب منه القيام بدور ذكوري نشط في الحياة الواقعية والاجتماعية. تسلط تعليقات فرويد (1911)الضوء على مصادر جنون العظمة التي يربطها بطريقة علاج المثلية الجنسية،(البارانويا والجنسية المثلية) والتي تعتبر بالنسبة لشرايبر من النوع السلبي بشكل بارز. توفي عام (1911) عن عمر يناهز الثامنة والستين باحدى المصحات النفسية.
مضمون هذيانات شرايبر

حالة الذهان التي دخل فيها شرايبر في نوبته الثانية لم تكن معروفة جدا أنداك، لكنه أعطى في مذكراته وصفا دقيقا للهذيانات التي كانت تدور حول نظام معقد من العلاقات بين الكائنات والله. كان يعتقد أنه يتعرض للاضطهاد لأن أعصابه تجذب الله.
الأحلام والرغبات المكبوتة
خلال غياب زوجته (كما اشرنا أعلاه) كان يراوده حلم متكرر يقول عنه أنه حلم مصحوب بتلوثات ليلية لم يبرز محتواها ولا معناها في مذكراته، لكن تفسيرات فرويد لهذا الحلم ولمذكرات شرايبر أوصله الى أن الحلم المتكرر كان يحمل اشباعا لرغبة جنسية مثلية نحو طبيبه فليكسج، والذي سبق وعبّر في مذكراته عن امتنانه له. هذا الامتنان حسب فرويد هو تعبير عن علاقة تحويلية اتجاه طبيبه؛ هذا الأخير الذي يتخذ في البناء النفسي لشرايبر بديلا للأشخاص المهمين والمحبين في حياته.
بعدما عادت زوجة شرايبر من الرحلة كان يتخيل موتها، ويعتقد أنه في حضور روحها التي عادت من بين الأموات. وخلال فصل الصيف من ذات السنة، يحلم عدة مرات بأن مرضه قد عاد إليه، وهو ما حلله فرويد على أنه رغبة مستترة في رؤية طبيبه مرة أخرى.
الهوية الجنسية والصراع النفسي
سيطر على خيال شرايبر وفي حلم اليقظة (كما يقول جورج آرثر جولدشميت) رغبة قوية في أن يكون امرأة الله من أجل ولادة إنسانية متجددة. وفقًا لسغموند فرويد، فإن هذا البناء الكوني يخفي الرغبة الجنسية المثلية الكامنة لشرايبر اتجاه طبيبه فليكسيج، الذي يتهمه بإغواءه عن طريق الإسقاط، كونه يصفه فيما بعد بأنه يضطهده ولا يريد مواصلة العلاج معه:
يصف شرايبر طبيبه فليكسيج بأنه “المغوي الأول”، تجدر الاشارة الى أن الكلمة الألمانية (verführen) التي استعملها شرايبر في مذكراته لوصف اضطهاد طبيبه له تعني حرفيًا “قيادة شخص ما إلى حيث لا يريد الذهاب” وهو ما يرتكز عليه فرويد في تحليل زلات القلم والكلمات لفهم مضمون اللاوعي، خاصة وأن فرويد كان يتقن جيدا اللغة الألمانية. ويسمي شرايبر طبيبه فليكسيج، في مكان واحد من مذكراته بـفوهرر الأشعة؛ بمعنى الشخص الذي يكلفها. فهو من ناحية يعطي وصفا دقيقا لانجذابه إلى طبيبه فليكسيج بفعل زلات الكلام، ومن ناحية ثانية يثير هذا الأمر سخطه، ويتعارض مع ما يريده، وهو البقاء على طريق الزواج المستقيم؛ لأنه يعتبر أمر الانجذاب هذا انحرافا عن مسار الله.
يتطور هذا الخيال ويتوضح أكثر، ليتحول الى الرغبة في أن يكون امرأة خاضعة للفعل الجنسي. ويستخدم شرايبر للتعبير عن ذلك المصطلح الألماني(unterliegen) الذي يعني “الخضوع”، أو “الكامن تحت”. وهكذا يعبّر بطريقة لغوية غير مباشرة عن رغبته في الاستلقاء تحته، ويستمر في التراجع إلى الوراء رغم أن الأمر يثير سخطه كما يقول. يلخص جورج آرثر جولدشميت في ذات السياق أن شرايبر يترك نفسه عالقًا في فخ اللغة الألمانية الذي يجعله يقول ما لا يريد التحدث عنه، وما لا يجرؤ على الاعتراف به لنفسه، أي رغبته في أن يكون امرأة في عملية جنسية؛ وهنا يستخدم شرايبر الكلمة الألمانية (das Weib ) التي تشير الى المرأة في تمثيلها الجنسي، في حين أنه لا يستخدم أبدًا كلمة (die Frau) التي تشير أكثر إلى المرأة في تمثيلها الاجتماعي.
من الرغبة إلى الاضطهاد:
يتطور محتوى خيال الرغبة الى الاضطهاد الحاد من طبيبه، ليتطور ويصبح الله مضطهده الجديد، وفي هذا المستوى من تفاقم الصراع النفسي يقول فرويد يبدأ حل الصراع بتقبل رغباته الجنسية المثلية ويجد شرايبر أنه من الأسهل قبول تقديم نفسه الى لله، ثم يحدث الهذيان الأكبر لتبرير رغباته (يقول فرويد) :اذا كان يستحق الاضطهاد فلأنه شخصية قوية. حلمه في أن يصبح امرأة خاضعة للفعل الجنسي ناجم عن عدم قدرته على انجاب أطفال. هدف برانويا شرايبر هو اعادة اسكان العالم بأطفال شريبريين في تقمص واضح لزوجته بعد أن تخيّلها ميتة، أو بمعنى أصح قتلها في بنائه النفسي ليحل محلها كأنثى خاضعة للفعل الجنسي وقادرة على الانجاب.
يظهر أيضا في هذيانات شرايبر العلاقة بين الإيمان بالله وحقيقة رغبته في أن يكون امرأة. قناعته بوجود مهمة خلاص في تحوله الى امرأة هي عنصر كلاسيكي من الهذيان المصحوب بجنون العظمة ذي الطبيعة الدينية حسب وصف فرويد، فإنه يؤكد أن العنصر الأصلي للهذيان عند شرايبر هو الرغبة التي يبديها في أن يصبح امرأة مثقفة، يمكنها في اتصال جنسي بالله انجاب إنسانية متجددة جديدة بأرواح شريبرية (بعد ان انقطع نسله بسبب عدم قدرته على الانجاب).
وتمتلئ مذكراته بالمفاهيم الدينية مثل مفهوم “قتل الروح” الذي يشير إلى تقليد ثقافي لشخصية الشيطان، الذي يُنظر إليه على أنه “قاتل الروح”، وهو الاسم الذي يطلق عليه باستمرار (Flechsig) والذي يعارضه الله الذي كان سيختاره لتخليص وإعادة بناء الإنسانية.
التربية واللاوعي
هذه المحتويات الاستيهامية بالنسبة لفرويد، تسير وفقا للآليات النفسية الكلاسيكية من النقل والتكثيف والازاحة، وتأتي مباشرة من الممارسة التربوية الصارمة لوالده الذي تنقسم صورته بعد ذلك بين الجانب الشيطاني؛ مما يجعله قاتل الروح (نفوس أبنائه)، والبُعد (الجانب) المثالي نظراً لمكانته المرموقة في الحياة الاجتماعية. ويعتقد فرويد أن لتأثير المضامين الدينية الخاصة بالمجتمع المسيحي الذي نشأ فيه شرايبر لا سياما فيما يتعلق بموضوع مقتل الابن على يد الأب أثر بالغ في بناء الاستهام والهذيان لدى شرايبر.
وبصفته قاضيا لامعا ومثقفا وسليلا لعائلة مثقفة ومؤثرة، لم يتمكن شرايبر من الابتعاد عن المحتويات الثقافية لعصره، وبالتالي يمكن قراءة هذيانه كوثيقة سريرية بقدر ما يمكن قراءتها كوثيقة تاريخية ثقافية، في مرحلة تاريخية كانت فيها الثورة ضد الأب موضوعا متكررا .
كانت الأصوات الصادرة منه تشير إليه باسم “أمير الجحيم” وأنه سيُدفن حيًّا، وأعاد هذا إلى الانحلال الأخلاقي الذي تطوَّر بداخله في شكل رغبة معاديةٍ للرب (رغبة الجنسية المثلية).
يصف فرويد أحد أكثر الاستهامات التي كانت تُسيطِر عليه في قوله: تحت تأثير الرؤى التي كانت تتسم بطابعٍ مرعب في جزءٍ منها، ولكنها في جزءٍ آخر كانت تحمل إحساسا لا يُوصف بالعظمة، أصبح شرايبر مقتنعا بقربِ حلولِ كارثةٍ كبرى مُتمثلةٍ في نهاية العالم. وكان يؤمن بأنه الرجل الوحيد المُتبقِّي على قيدِ الحياة، وفسَّر وجود الأشكال البشرية القليلة التي لا يزال يراها (كالطبيب والمساعدِين والمرضى الآخرِين) بأنهم رجالٌ صُنِعوا بمعجزة على عُجالةٍ وبغير إتقان، وهو ما سماه فرويد بوهم نهاية العالم، الناجم عن انسحابِ الطاقةٍ النفسية الشهوانية من الناس في بيئته؛ مما جعل كل شيءٍ حولَه غيرَ مُهمٍّ وغيرَ ذي صلةٍ بالنسبة له. يرى فرويد أن وهم نهاية العالم يعتبر إسقاطًا لهذه الكارثة الداخلية؛ فعالمه الذاتي وصل إلى نهايته منذ انتهاءِ حبه له.
اذن، قدم مذكراته في شكل هذيان ديني ونشأة الكون، وكان مقتنعا بالحفاظ على علاقة مميزة مع الله، وبأنه بمجرد أن يتحول إلى امرأة، سيكون قادرًا على أن يصبح الزوجة الفادية ومولدة لإنسانية جديدة. يعلّق شرايبر على هذه القناعة بأنه سيصبح امرأة ويغذي خيال ما يسميه (die Entmannung ) وهو مصطلح يمكن ترجمته “إخلاء أو إخصاء” ويشير في اللغة الألمانية أيضا إلى “الافتقار إلى شيء ما والحرمان منه”. وبالتالي، فإن خيال شرايبر العميق ليس خيالا للتحول الجنسي، ولكنه خيال للقدرة المطلقة التي تجعله يتحول الى ما يريد. يدّعي شرايبر أنه ثنائي الجنس، ويرغب في أن يُؤخذ منه شيء ما حتى يكون هو الكل، وينضم بطريقة ما إلى شخصية العذراء وقدرتها على التوليد الذاتي التي تتجلى في وضعها كعذراء وأم لعيسى ابن الله.
الدين والهوس الجنسي
في هذيانه، يعيد شرايبر بناء نفسه على أنه غير مفقود، متماثلا مع العذراء الكاملة غير المفقودة. يوجد حدث في التاريخ الشخصي لشرايبر لم يسمح له بأن يتطور إلى حالة الرغبة الشديدة (حالة الإخصاء). يتخذ هذا الافتقار إلى التفصيل في هذاياناته شكل خلل في الكون وهو، بالنسبة لشرايبر طريقة لإعادة نسب الرحلة المفقود عبر الإخصاء والتحول الى أنثى. يتم هذا الحدث في والد شريبر الذي كان يمجد فكرة السيطرة الكاملة على الجسد، ويتدخل باستمرار في واقع ابنه، ويظهر نفسه كمتطفل على جسد أبنائه ككل باعتباره طبيبا.
دانيال بول كان يريد أن يكون والده أبًا ومعلمًا ومرشدًا ومصلحًا في نفس الوقت، ولا يترك مجالًا لأي فجوة، فيتظاهر شرايبر في هذياناته بأنه لا ينقصه شيء. من الواضح أن هناك خللًا في هذه الجزئية، وهذيانه يعيد بناء صورة القدرة المطلقة هذه في شكل “الله الأب”. اذن، لا يستطيع شرايبر أن يكون بمعنى أن “الوجود”، فهو يود أن يكون كل شيء، ومع ذلك، لا يستطيع أن يدرك شخصية “الكائن كله” إلا من ناحية المؤنث، من جانب الإلهة الأم، حيث أن المرأة هي الوحيدة القادرة على إنجاب الأطفال.
شرايبر، مقتنع في هذياناته بأنه يعيش تحت التأثير الشيطان الشرير لطبيبه بول فليكسيج، وهذا بالضبط مفهوم الإدانة المرتبط باستهامه الذي يمنحه طابعه المرضي، الذي يأخذ شكل إنشاء كوني مثير للإعجاب (مذكراته المكوّنة من أربعمائة صفحة). ينقل شرايبر إلى طبيبه فليكسيج التأثير المؤلم الذي كان يمارسه والده القوي عليه، وأساليبه التربوية الصارمة، وبعيدًا عن الأب ، لا يمكن أن يستمر خط كامل من الإصلاحيين اللامعين مثل شرايبر، الذي لم ينجب أطفالا، إلا إذا كان ينقل تراثًا ومعنى بطريقة أخرى، مثل كتابة مذكرات تحل محل النسب المنقطع.
الاحساس بتفكك الجسد( اللاتشخصية)
يصف شرايبر حالة جسده، الذي أخذ نصيبا كبيرا في مذكراته؛ فكان يعتقد أن فصي رئته معتلان وأنه مصاب بدودة الرئة، وفصوص الرئة أحيانا تصبح غائرة بالكامل، والحجاب الحاجز يرتفع حتى حنجرته تقريبًا؛ بحيث لم يكن يتبقى إلا جزء صغير فقط يمكنه التنفس منه بالكاد، وكان يمتلك كما يقول معدة يهودي وضيع، وأحيانا تختفي معدته تمامًا، مما يجعل الطعام والشراب اللذَين كان يستهلكهما يُصبَّان في تجويف البطن ومنه إلى الفخذَين. وكان المريء والأمعاء متمزقَين أو يختفيان بشكلٍ متكرر، ويختفي جزء من البلعوم على نحو متكرر أيضا.
في حين كانت الهجمات المُوجَّهة ضد أعضائه التناسلية واضحةً ومرتبطةً كما يقول بأن رجولته قد انتُزعَت منه لغرض إلهي، وكان هذا الغرض في البداية يتمثل في ممارسة الجنس عليه، وفيما بعد صار هذا الغرض هو لأجل افتداءِ العالم وإنقاذه. وأدَّى تعفن بطنه إلى انبعاثِ رائحةٍ كريهة من فمه على نحوٍ مثير للاشمئزاز كما يقول . وكانت الأعصاب تُنزَع من رأسه الذي كان هو الآخر يُضغَط بواسطةِ شياطينَ صغار، مع وجود حالةٌ مؤلمة للغاية تشبه التسوُّس في فقراتِ الظهر السفلية سماها بمعجزة العُصعُص .
النرجسية وجنون العظمة

اعترف فرويد بأن دراسة حالة شرايبر تضع الأسس للتفكير الجوهري في النرجسية التي تقودنا إلى اعتبار جنون العظمة بمثابة إعادة خلق شكل من أشكال الوهم النرجسي حيث تتحقق القدرة المطلقة . أدى تحليل الحالة شرايبر إلى تغيير في الموقف النظري لفرويد منذ عام 1914 حيث افترض أن النرجسية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمسألة الإخصاء. في عام 1918، قدم إرنست كريتشمر (1888-1964) مساهمة أساسية في نظرية جنون العظمة من خلال كشف ما يسمى منذ ذلك الحين “وهم العلاقات بين الحساسيات”.
تأسيس شرايبر لمنظومة الأوهام المخلِّصة حوَّل الاضطهادات المُوجَّهة ضده إلى خضوع ذي طابع مثالي، وعمِلَت هذه المنظومة كملاذ نفسيّ يمكنه توفير الحماية الكاملة من الشعور بالخزي. هذا التحرُّر من الخزي هو ما جعل بإمكانه أن يُقدِّم هذا الوصف الدقيق والجريئ لِجُنونه.
ففي رسالة كتبها شرايبر لطبيبه فلكسيج (سبقت مُذكراته)، اعترف فيها باحتمالية أن ما سيقوله له قد يكون مؤلما له ولآخرِين، لكنه يوقن بحقه الأخلاقي الذي يُبرِّر نشرها. يقول: يُحزنني هذا كثيرًا لكن لسوء الحظ لا يمكن إحداث أي تغييراتٍ دون أن أجعل نفسي من البداية مفهومًا…إن هدفي الوحيد هو تعميقُ معرفة الحقيقة في مجالٍ حيوي، وهو الدين…لكني أعتقد أن فحصًا خبيرًا لجسدي ومراقبة مصيري الشخصي على مدى حياتي سيكون قيِّمًا لكلٍّ من العلم ومعرفة الحقائق الدينية. وفي ضَوء مثل هذه الاعتبارات يجب أن تتراجع كل المشكلات والأمور الشخصية.
ويستشهد فرويد ببعض النقاط التي وضَّحَها شرايبر في مذكراته: لقد عملَت منظومة الأوهام كملاذٍ نفسي كما كانت بمنزلةِ مخبأٍ ينقطع فيه الاتصال مع الواقع على نحوٍ مهين. والواقع أن قدرة المصاب بالذُّهان على تحدي الشعور بالخزي هي ما يسمح له بكشف جوانبَ خاصةٍ من تكوينه تكون خفيةً عند أفرادٍ أقلَّ اضطرابًا. إن بحث التحليل النفسي في جنون الارتياب سيكون مستحيلًا كليًّا لو كان المَرضَى أنفسهم لا يمتلكون خاصيةَ إفشاءِ تلك الأشياء (وإن كان على نحوٍ مُشوَّه) التي يُخفِيها المُصابون بالعُصاب كأسرار. (فرويد، 1911، صفحة 9).
إن الجُرأة وغياب الخجل لدى مريض الذُّهان هما ما يسمحان له أحيانًا بكشف الغطاء عن الأمور التي يخجل منها الآخرون، ويُمكِّناننا من رؤية الآليات العقلية باديةً للعيان. والوصف الدقيق لصرخات الاستغاثة التي يُطلِقها وما يعقبها من إهاناتٍ هما ما يجعلان من الممكن إعادة النظر في مرض شرايبر من منظورٍ جديد واستخدام المُلاحظات التي دوَّنها عن نفسه لفهمِ بعضٍ من الألم الذي عاناه فهمًا أفضل، وربما تحديد معاناةٍ مماثلة لدى مرضانا.
خاتمة:
وفي الختام، أريد الاشارة الى أن عالم دانييل بول شرايبر الداخلي لم يتأثر فقط بمحتويات ثقافية معينة في عصره، بل وبتاريخ عائلته، وعجزه عن الانجاب أيضا. واللغة الألمانية التي كتب بها محتوى أفكاره واستهاماته وصراعاته النفسية، وهذياناته تعطي مادة دسمة لجنونه المنطقي دون أن يعرف هو ذلك؛ كونها تكشف من وقت لآخر عن زلات وخبايا اللاشعور التي كشفها التحليل النفسي بعد ذلك. واعتبرت البرانويا بعد دراسات الحالة شرايبر المتعددة كنظام دفاعي ضد الرغبة الجنسية المثلية، وهو ما أكده فرويد في رسالة كتبها إلى كارل غوستاف يونغ بتاريخ 24 سبتمبر 1910.