القائمة

التفسير النفسي لظاهرة التولبا الخيالية

شارك المقال

يطوّر معظم الأطفال في مرحلة الطفولة الأولى رفقاء خياليين يستمتعون معهم. ويستخدمونهم لمحاكاة التفاعلات في الحياة الواقعية، من أجل فهم هذه العلاقات. في سن ما قبل المدرسة يبدأ الأطفال الأكثر احتمالا لتطوير أصدقاء خياليين (الطفل الوحيد، الذي لا يشاهد التلفاز كثيرا، والذي يترك لوقت طويل لوحده أو الذي يعاني من الرهابات الاجتماعية، والأقل تفاعلا) يبدؤون في رؤية أنفسهم ينفصلون عن والديهم ولا يملكون مهارات كافية لتطوير علاقات اجتماعية بديلة. فيبدؤون بخلق صديق خيالي لنمذجة العلاقات من أجل التدّرب عليها. ثم يبدؤون بتعلّم التمييز بين الصداقات الحقيقية والعلاقات الأسرية والعلاقات مع المعلمين ومع الصديق الخيالي.

فوائد الصديق الخيالي للطفل:

الصديق الخيالي في العلوم النفسية ليس ظاهرة سلبية أو مقلقة أو مرضية، بل على العكس فإن وجود صديق خيالي لدى الطفل يقدم فوائد متعددة، نذكر منها:

فوائده عند الأطفال:

– يعتبر الصديق الخيالي أداة تعليمية تمنح الطفل القدرة على خلق وتعلّم العلاقات الاجتماعية والتحاور وإجراء المحادثات. والأطفال الذين لديهم أصدقاء خياليون يميلون إلى تعلّم أن يكونوا أكثر انفتاحا اجتماعيا. وتدعم احترام الطفل لذاته نتيجة توفر علاقة مع صديق يلعب فيها الطفل دور شخصية السلطة أو القيادة.

– الطفل الصغير يشعر غالبا بسبب العجز النمائي بعدم الأمان في العلاقات الاجتماعية وفي الحياة اليومية بشكل عام، وهنا يعتبر وجود صديق يشبهه لكنه ينصاع له أمرا مطمئنا له. ولهذا غالبا ما نرى الأطفال خلال اللعب لوحدهم يصحّحون أو يوبخون أو يخبرون رفيقهم الخيالي بأشياء معينة. وهم قادرون على إبلاغ آبائهم بكل وضوح أنهم يتعاملون مع صديقهم الخيالي.

– إذا كانت علاقة الطفل بصديقه الخيالي قائمة على المساواة، سيشعر بالثقة إلى حد ما في تفاعلاته في الحياة الواقعية، ويطور قدرة عالية على فهم العلاقات، وعلى الشعور بالقوة والكفاءة الاجتماعية خاصة.

– يعتبر الصديق الخيالي بالنسبة لبعض الأطفال طريقة لتجميل حياتهم أو لتعويض النقص فيها، أو لزيادة مهارات الذاكرة.

فوائده عند المراهقين:

– بالنسبة للمراهقين الذين يفضلون الاحتفاظ بصديقهم الخيالي أو يحاولون استرجاعه في سن متقدمة فيكون بهدف اكتشاف الآليات التي تكمن وراء هذه الظاهرة بدافع الفضول، أو لدفع حدود مفهومهم للواقع واكتشاف عوالمهم الداخلية أو حتى لاعتقادهم بتخطي حدود الجسد والدخول في عوامل سفلية أو ماورائية.

– يقدم الصديق الخيالي علاقة بين-شخصية عالية الجودة، إذ يمكن  أن يساعد الطفل أو المراهق على المستوى العاطفي في أوقات الأزمات أو الصراع الداخلي الصعبة.

– يمكّن الصديق الخيالي الطفل من التعامل مع الآراء المتعارضة والمختلفة في نفس التوقيت، ويفتح له المجال للتفكير في اتجاهين مختلفين للتعامل مع المشكلة أو الموقف. لذا إذا لاحظ الأباء وجود صديق خيالي لدى الطفل يساعداه على الاحتفاظ بالسيطرة على هذه العلاقة. ولا يسخرون من الطفل ولا ينهرونه ويعترفون بوجوده. ويضعون حدودا معقولة لكيفية وتوقيت تفاعل الطفل مع صديقه الخيالي.

أنواع الصديق الخيالي:

يوجد ثلاثة أنواع من الأصدقاء الخياليين:

الأول، هو الصديق غير المرئي، لا يستطيع سوى الطفل رؤيته والتفاعل معه. ويكون من أحد الجنسين (مذكرا أو مؤنثا) أو محايدا بلا جنس محدد. وقد يأخذ الرفيق الخيالي شكل شخص أو حيوان أو وحش أو مخلوق أسطوري أو شبح أو حتى ظل الطفل نفسه. ويتم التعامل معه ليس كقرين متساوي، فالطفل يدرك تماما أنه لا يشبهه ولا يملك نفس صفاته أو صفات البشر.

الثاني، الأشياء المجسمة التي تأخذ شكل الألعاب، أو أشياء أخرى تمنحهم الراحة والأمان كالوسائد والبطانيات أو بعض الأواني. وتميل الأشياء المجسمة إلى أن تكون أكثر تبعية للطفل .

في حالات نادرة، يستخدم الأطفال أجسادهم كوسيلة لنقل شخصية خيالية. وعندما يحدث هذا، يتولى الطفل دورا باسم وشخصية مختلفين، ولن يستجيب لهذا الاسم ويتفاعل بصفته تلك الشخصية إلا أثناء تقمصه للشخصية. ويستخدم الأطفال ملابس معينة لإخبار الآخرين بأنهم ينقلون شخصية صديقهم الخيالي.

متى يجب أن يتخلص الطفل من صديقه الخيالي:

يتخلص معظم الأطفال بشكل طبيعي من الصديق الخيالي في مرحلة ما قبل المراهقة (12 سنة على الأكثر). لكن أحيانا قد يحتفظ بعضهم به، ويغيّرون الطريقة التي يتفاعلون بها معهم؛ فنجدهم يستدخلونه بالكامل إلى عالمهم الداخلي ولا يعبّرون عنه أو يتواصلون معه بصوت عال كما كانوا يفعلون. وقد يحوّل الطفل الرفيق الخيالي إلى شخصية يرسمها أو يكتب عنها قصصا، وهذا النوع يحتفظون أحيانا بالصديق الخيالي طوال فترة المراهقة وأحيانا حتى مرحلة البلوغ.

طالما أن الطفل أو المراهق يعرف أن صديقه الخيالي ليس حقيقيا، فلا يوجد سبب للقلق. أما إذا لم يفهم الطفل في سن المدرسة ذلك، يجب طلب المساعدة النفسية فقد تكون مؤشرا على بدايات ظهور اضطراب عقلي كفصامات الطفولة مثلا.

تفسير علم النفس المرضي لظاهرة التولبا:

التفسير النفسي لظاهرة التولبا الخيالي

يركز علم النفس المرضي على أنه لا توجد التولبا إلا في اللاوعي، وهو مجرد امتداد لتفكير الشخص الذي ابتعد بما يكفي نفسيا لكي يدركه الصديق الخيالي (التولبا) ككيان خاص به ومختلف عنه. يكتسب التولبا الوعي الذاتي أثناء عملية الخلق وينفصل تدريجيا عن الشخص، مما يؤدي إلى إنشاء عقلين مفكرين داخل دماغ الشخص. (الوعي واللاوعي). يعمل الشخص على اختيار شكل التولبا، وفي حالات متطرفة (متطرفة بمعنى مرضية) من الممكن أن يختار التولبا شكلا لنفسه. بمعنى سيطرة اللاوعي على الوعي. وهي بداية مقلقة.

التواصل بين التولبا والشخص يتم من خلال الأفكار، بنفس الطريقة التي يفكر بها أو يتحدث بها عقليا في رأسه. التولبا كائن عقلي تماما، ولكنه يمتلك أيضا شكلا خياليا يمّكن الشخص من رؤيته عقليا، عن طريق الخيال والتصّور. ويتم إنشاؤه من قبل الشخص ويأخذ دور الرفيق العقلي الخيالي الذي يرافقه في تفاصيل حياته اليومية. وبالتالي التولبا من وجهة نظر نفسية يعبر عن إنشاء بوابة بين الشخص وبين عقله الواعي (الأنا)، وعقله اللاوعي. لذلك تتمتع التولبا بميزة القدرة على التنقل بسهولة من مستوى وعي إلى آخر؛

على سبيل المثال لاستعادة الذكريات أو المكبوتات التي تكون صعبة الاسترجاع، يبدي الشخص رغبته في ذلك ويتصل مع التولبا الخاص به، ويبذل مجهودا لتذكر الأشياء المنسية بالتأمل والتذكر؛ وهو ما يسمح بتحفيز واستثارة الذاكرة.

يمكن أن يذهب مفهوم التولبا لدى البعض إلى مستويات أبعد من مجرد كونها كائن عقلي خيالي بسيط، لأنه وبعد التدريب الموجه والطويل والمتكرر يمكن للشخص رؤية أو سماع أو لمس أو الشعور بالتولبا الخاصة به في العالم الحقيقي. ما يحدث هنا هو مجرد تعديل نفسي بسيط لإدراكنا للواقع الواعي والإرادي؛ كما يحدث مثلا في الحلم أين تشعر بألم فعلي في المعدة لأنك تحلم بدخول خنجر في بطنك، أو تعيش النشوة الجنسية مع الحلم الجنسي، أو الانتقال بين مراحل مختلفة من الماضي والاحساس الجسدي المرافق للحدث أو الانفعال المعاش خلال تقنية التنويم الايحائي. لنفهم أكثر، فإن التفعيل الارادي للوعي واللاواعي في نفس الوقت وفتح قنوات الاتصال بينهما من خلال التفكير الموجه والمكثف هو ما يحدث هذه الظواهر التي تبدو لغير المختصين ظواهر خارقة.

أخطار التولبا الخيالي

– التولبا لن يتفق دائما مع صاحبه، لا في مشاعره ولا منطق تفكيره ولا حتى سلوكياته. وهنا يحدث انشطار فعلي داخل الشخصية.

– وجود الكثير من الخزعبلات حول التولبا وكيفيات التواصل معه، وطقوس خلقه واستحضاره تفتح المجال أمام الشخصيات ذات التفكير السحري والشخصيات ذات القابلية الكبيرة للايحاء والأشخاص ذوو التعليم المتدني للضياع بين الحقيقة والوهم. وهو ما يمكن أن يحدث الكثير من المشاكل البين شخصية وبين العلاقات مع الآخرين ومع العالم الخارجي والواقع.

– يمكن أن يتميز التولبا لدى المراهقين بكونه أناني وقاسي أو اضطهادي في بعض الأحيان. يمكن أن يحدث ذلك خلافات ومشاجرات بين الشخص ونفسه وتفكيره وبالتالي ازمة هوية.

– يتدخل التولبا ويؤثر في العديد من الآليات والعمليات النفسية. فعندما يعيش الشخص المضيف مثلا هلوسة بصرية أو سمعية ناتجة عن رغبته في رؤية أو سماع أو لمس التولبا، فإنه يغامر بتعديل بعض وظائف الجهاز النفسي، خاصة وأن الخزعبلات الموجودة اليوم لفعل ذلك، والتي تفرض على الشخص ممارسة طقوس معينة في بيئة آمنة وبشكل منعزل وفردي لا تعتمد إطلاقا على التأمل الذاتي أو الاستبطان.

– التولبا كجزء من العقل اللاواعي قد يكون مهتما بأشياء مختلفة ومتعارضة تماما مع العقل الواعي وبالتالي مع الشخص. التولبا تفتح بوابة الهو واللاوعي، وهذا خطير من دون تحكم ومراقبة كبيرة من الأنا.

– قرار استمرار التولبا مع التقدم في السن وعدم التخلي عنه هو قرار قد يضر بالكثير من الأشخاص. وقد يستمر مع الشخص للأبد، ويتطور ككرة الثلج ليسيطر على زمام تفكير الشخص وزمام حياته النفسية، ويفقد معه الشخص السيطرة على حياته. ويصبح التخلص من التولبا أمرا صعبا جدا. فالشخص المستضيف الذي قام بإنشاء كيان وهو مقتنع بأنه يتمتع بذكاءه الخاص، وقادر على الشعور بنفس مشاعره، يستعمل التولبا الخاص به كناقل لهذه الانفعالات، وهنا احتمالية الانحراف عن الأخلاق والمعايير كبيرة. لأن قوة الفكرة وقوة المعتقد هي ما يسيّر ويوجه انفعالات وسلوكيات الشخص.

– إن التحدث عن التولبا أمام الآخرين سيؤدي إلى نبذ الشخص من المجتمع ورفضه أو اعتباره مجنونا أو مسحورا أو تم الاسحواذ عليه، والتعامل معه بحذر وخوف شديدين. كون أن ظاهرة التولبا لا تحظى بقبول أو اعتراف من قبل المجتمع ولا حتى الأخصائيين في العلوم الطبية والنفسية.و يمكن أن يؤثر ذلك على احترام الشخص بين الآخرين ويمكن أن يفقده وظيفته أو يتعرض للتنمر والمضايقات والتهميش.

كما أن الكثير من الأشخاص ومن ممارسي الصحة والممارسين العياديين يخلطون بين التولبا والذهان والفصام وحالات الخلط الذهني وسيسارعون إلى وسم الشخص بالجنون أو الاستحواذ أو الدجل.

المراجع:

  • Atran, S. (2002). In gods we trust: The evolutionary landscape of religion. Oxford: Oxford University Press.
  • Barrett, J. L. (2011). Cognitive science, religion, and theology: From human minds to divine minds. West Conshohocken, PA: Templeton Press.
  • Bateson, G. (1980). Mind and nature: A necessary unity. Toronto: Bantam Books.
  • Bruner, J. (1989). “Life as Narrative”. Social Research New York, 71, 3, 691-710
  • Chandler, M. J., Lalonde, C. E., Sokol, B. W., & Hallett, D. (2003). “Personal persistence, identity development, and suicide: a study of Native and Non-native North American adolescents”. Monographs of the Society for Research in Child Development, 68, 2.)
  • David-Néel, A. (1932). Magic and mystery in Tibet. New York: C. Kendall.
  • Descola, P. (2005). Par-delà nature et culture. Paris: NRF.
  • Kirmayer, L. J. (1992a). “The Body’s Insistence on Meaning: Metaphor as Presentation and Representation in Illness Experience”. Medical Anthropology Quarterly, 6, 4, 323-34
  • Veissière, Samuel. (2015). Varieties of Tulpa Experiences: Sentient Imaginary Friends, Embodied Joint Attention, and Hypnotic Sociality in a Wired World. Retrieved February 15, 2025, from Somatosphere Web site: https://somatosphere.com/2015/varieties-of-tulpa-experiences-sentient-imaginary-friends-embodied-joint-attention-and-hypnotic-sociality-in-a-wired-world.html
  • Whitehouse, H. (2004). Modes of religiosity: A cognitive theory of religious transmission. Walnut Creek, CA: AltaMira Press.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *