الخلفية الفكرية لعلم النفس الحديث. تشكل جانبا مهما من تاريخه وجزء من إرثه الحالي. ويعتبر البحث في هذا التاريخ و الإرث العلمي أمرا مهما و ضروريا. فقد ساهمت الكثير من الأفكار و النظريات في ظهور علم النفس العلمي. وهو ما نسميه اليوم بعلم النفس.
فقد انتقل علم النفس من التفكير الفلسفي التأملي إلى التفكير العلمي الموضوعي. لكنه لم يتخلص من الجدل الذي ميز الفلسفة على كل حال. وهو ما يفسر التباين الكبير في نظريات هذا العلم.
يرجع التباين في نظريات علم النفس إلى عدة أسباب إبستمولوجية. فالظاهرة النفسية غير قابلة للملاحظة المباشرة، ويصعب تطبيق المنهج التجريبي عليها إلا باتباع مسلمات و تقديم تنازلات، جعلت العلماء يتبنون توجهات فكرية متباينة، ويقدمون حججا وبراهين من مستويات و أصناف مختلفة.
لذلك كله يبقى التعرف على النظريات أو التوجهات الأساسية في علم النفس، وفهمها أمرا ضروريا لفهم و تفسير الظواهر النفسية و التدخل الفعال في الوقت الحالي.
مع التركيز على التحولات الفلسفية الهامة التي أثرت على هذا التطور. وكان محور هذا التحول هو مذاهب الوضعية والمادية والتجريبية. حيث لعب كل منها دورا محوريا في تشكيل الخلفية الفكرية لعلم النفس الحديث.
الوضعية:
تؤكد الوضعية، كما عبر عنها أوغست كونت، على الالتزام بالملاحظة التجريبية والمنهجية العلمية، ورفض التكهنات الميتافيزيقية. أصرت فلسفة كونت على أن المعرفة الصحيحة يجب أن تستند إلى ظواهر يمكن ملاحظتها وحقائق قابلة للقياس. وقد أثر هذا المنظور بشكل عميق على مختلف التخصصات. إذ دعا إلى اتباع نهج صارم وقائم على الأدلة في البحث والنظرية.
إن تأثير فلسفة أوغست كونت على التخصصات المختلفة كان مهما. فمبدأ الاعتماد على الملاحظة والتجربة ورفض التكهنات غير المبنية على الوقائع الملموسة، والتأكيد على الأدلة والقياس في البحث العلمي. ولا يزال له تأثير كبير في العديد من المجالات اليوم.
على سبيل المثال، في علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية، يستمر التركيز على تحليل الظواهر الاجتماعية بناء على البيانات الملموسة والدراسات الميدانية. وهذا النهج العلمي المنهجي أثر أيضا على الفلسفة نفسها. حيث يجد الفلاسفة اليوم أهمية كبيرة في استخدام الأدلة والمنهجيات العلمية في بناء النظريات والفلسفات الجديدة.
إن فلسفة أوغست كونت ما زالت تمثل مرجعا مهما لفهم كيفية البحث والتفكير العلمي في مجموعة واسعة من التخصصات. وتحفز على الالتزام بالدقة والأدلة في العمل العلمي والفلسفي.
المادية:
المادية تكمل الوضعية من خلال التأكيد على أن جميع الظواهر، بما في ذلك العمليات العقلية، يمكن تفسيرها من حيث المادة الفيزيائية والطاقة. يختزل هذا الرأي الظواهر النفسية في حالات الدماغ والعمليات العصبية، بهدف تقديم تفسير فيزيائي كامل للفكر والسلوك البشري.
من خلال التركيز على الخصائص الفيزيائية للدماغ، ساهم الماديون في تمهيد الطريق للمناهج البيولوجية وعلم الأعصاب في علم النفس. ولم يتخلص علم النفس من هذه النظرة إلى يومنا هذا، فمن غير الممكن إهمال الجانب المادي البيولوجي و العصبي و الوراثي في البحث في الظواهر النفسية. و الكثير من النظريات في علم النفس الحديث تجد في الجوانب المادية البيولوجية ركائزا علمية و خلفيات تعتمد عليها.
التجريبية:
تقول التجريبية، والتي انطلقت في الفلسفة من الفكر البريطاني بصفة عامة الذي تميز بهذا التوجه: أن كل المعرفة تنبع من التجربة الحسية. يتحدى هذا المبدأ بشكل مباشر وجهات نظر الفطرية أو الخلقية، مثل تلك الخاصة بديكارت، والتي تدعي أن بعض الأفكار فطرية.
أكد التجريبيون مثل جون لوك، وجورج بيركلي، وجون ستيوارت ميل على أن فهمنا ومفاهيمنا تتطور من تفاعلاتنا مع البيئة. مما يضع مبدأ أساسيا للنظريات النفسية اللاحقة. بما في ذلك السلوكية وعلم النفس المعرفي.
إن التجريبية تقدم منهجا فلسفيا يعتمد على البيانات الحسية والتجارب العملية في بناء المعرفة، مما يحد من الاعتماد على الافتراضات الفطرية أو الخلقية في فهم العالم وتحليله.
دور هذه التوجهات الفكرية في علم النفس:
شكلت هذه التوجهات الفلسفية – الوضعية والمادية والتجريبية – بشكل جماعي حجر الأساس لعلم النفس الحديث. لقد حولوا التركيز من الأساليب التأملية والاستبطانية إلى ظواهر يمكن ملاحظتها وقابلة للقياس الكمي. وفي علم النفس، كان هذا يعني التحرك نحو الأساليب التجريبية، والقياس الموضوعي، وتطبيق المبادئ العلمية لفهم العقل والسلوك.
الإرث التجريبي:
الإرث التجريبي في علم النفس عميق، ويؤثر على أساليب البحث، والأطر النظرية، والاتجاه العام للمجال. يستمر التركيز على الملاحظة والتجريب والاستنتاجات القائمة على الأدلة في توجيه البحث والممارسة النفسية.
باختصار، كانت الأسس الفلسفية للوضعية والمادية والتجريبية مفيدة في تحويل علم النفس من الانضباط الفلسفي إلى الانضباط العلمي. وشددوا على أهمية الملاحظة، والأساس المادي للعمليات العقلية، والأصول التجريبية للمعرفة، وتشكيل أساليب وأهداف علم النفس الجديد.
أثر صعود التجريبية بشكل كبير على ظهور علم النفس كنظام علمي، مما أدى إلى تحويل التركيز من التأملات الفلسفية إلى البحث التجريبي والتجريب. أصبحت المبادئ الأساسية للتجريبية – التي تركز على الإحساس، وتحليل الوعي، والقوة التركيبية للارتباط، وتحديد أولويات العمليات الواعية – جزءًا لا يتجزأ من أساس علم النفس.
دور الإحساس:
تؤكد التجريبية أن الإحساس هو نقطة الدخول الأساسية لاكتساب المعرفة، وهو المفهوم الذي وجه البحث النفسي نحو فهم كيف تشكل التجارب الحسية أساس معرفتنا بالعالم. هذا التركيز على الإدراك الحسي وضع الأساس لأبحاث لاحقة في العمليات الإدراكية، مما ساهم في النهاية في مجالات مثل علم النفس المعرفي وعلم الأعصاب.
تحليل الخبرة الواعية:
يتضمن المنهج التجريبي تقسيم التجارب الواعية إلى العناصر المكونة لها. أثر هذا النهج التحليلي على الحركات النفسية المبكرة، وخاصة البنيوية، التي سعت إلى تشريح بنية العقل إلى أبسط مكوناته. في حين تم انتقاد الطريقة الاستبطانية التي استخدمها البنيويون في وقت لاحق، فإن فكرة تحليل العمليات العقلية تظل مركزية في البحث النفسي.
التوليف من خلال الارتباط:
إن فكرة إمكانية دمج الخبرات الأولية من خلال الارتباط لتكوين حالات عقلية معقدة كان لها تأثير عميق على علم النفس. وقد أنذرت بنماذج اتصالية للعقل ونظريات مستنيرة للتعلم والذاكرة، وخاصة السلوكية، التي استكشفت كيف يمكن للارتباطات بين المحفزات والاستجابات أن تفسر السلوك.
التركيز على العمليات الواعية:
أدى تركيز التجريبية على العمليات الواعية إلى توجيه انتباه علم النفس إلى الظواهر التي يمكن ملاحظتها ووصفها. وقد تطور هذا التركيز، مع دمج النظريات النفسية اللاحقة لكل من العمليات الواعية وغير الواعية، ومع ذلك فإن الطلب التجريبي على الظواهر التي يمكن ملاحظتها وقياسها يظل حجر الزاوية في البحث النفسي.
الأساليب التجريبية وعلم النفس التجريبي:
التقت دعوى التوجه نحو التجريب في علم النفس مع جهود علماء وظائف الأعضاء، مما أدى إلى إنشاء علم النفس التجريبي. استخدم الرواد مثل فيلهلم ودنت الأساليب التجريبية لدراسة العقل بطريقة علمية محكمة، مما يمثل خروجا كبيرا عن الاستكشافات الفلسفية البحتة للطبيعة البشرية.
الإرث في علم النفس الحديث:
لقد ساهم الإطار التجريبي في تشكيل علم النفس بشكل دائم، مع التركيز على قيمة النتائج القائمة على الأدلة والقابلة للقياس والملاحظة في البحوث النفسية. وذلك سواء في النماذج التجريبية لعلم النفس المعرفي، أو الدقة التجريبية في التجارب السريرية، أو مناهج القياس النفسي المبنية على البيانات، فإن تأثير التجريبية منتشر في جميع مجالات علم النفس الفرعية.
باختصار، كانت مساهمات التجريبية في علم النفس أساسية، حيث وجهت النظام من التأملات الفلسفية إلى المسعى العلمي المنظم. ومن خلال دعم الملاحظة والتجريب وتحليل التجربة الواعية، ساعدت التجريبية في إنشاء الأساليب والموضوعات التي لا تزال تحدد علم النفس اليوم.
مراجع:
- Mehta N. Mind-body dualism: A critique from a health perspective. Mens Sana Monogr. 2011;9(1):202-209. doi:10.4103/0973-1229.77436
- Blumenthal AL. A Wundt Primer. In: Rieber RW, Robinson DK, eds. Wilhelm Wundt in History. Springer; 2001. doi:10.1007/978-1-4615-0665-2_4
- Patanella D. Titchener, Edward Bradford. In: Goldstein S, Naglieri JA, eds. Encyclopedia of Child Behavior and Development. Boston: Springer; 2011. doi:10.1007/978-0-387-79061-9