القائمة

تطور علم النفس المعرفي

شارك المقال

هناك العديد من الارهاصات لتطور علم النفس المعرفي كفرع من فروع علم النفس. سنقدم في هذا المقال، بإيجاز بعض هذه الارهاصات ونحاول الإشارة إلى كيف ولماذا أدت إلى تطور ما نسميه اليوم بعلم النفس المعرفي.

 ومع ذلك، فإن أي محاولة لسرد التطور التاريخي لأي ظاهرة أو علم أو أحداث هو بالضرورة عملية انتقائية وجهد لتبسيط ذلك التطور بهدف جعله واضحا ومفهوما. والسرد التاريخي الموجز الذي نحن على وشك تقديمه لا يحيد عن هذه القاعدة. وكبداية للحديث عن هذا التطور والارهاصات التاريخية التي أدت لظهور علم النفس المعرفي، سنبدأ بالحديث عن الاستبطان في ظل علم النفس التجريبي.

دور الاستبطان في تطورعلم النفس االمعرفي:

نشأ علم النفس التجريبي الحديث على يد فيلهلم فونت. والذي أسس أول مختبر علمي لعلم النفس في مدينة لايبزيغ عام 1879، مستندا إلى جهود رواد سابقين مثل دوندرز، فيشنر، هيلمهولتز، وماخ، الذين ساهموا في تحويل علم النفس إلى علم تجريبي مشابه للعلوم الطبيعية الأخرى التي بدأت تتطور خلال تلك الفترة. اعتبر فونت الوعي المجال الأهم لدراسة علم النفس، إذ رأى أن علماء الفيزياء يدرسون الظواهر المادية في العالم الخارجي، إما بشكل مباشر أو عبر قراءات الأجهزة، ويخوضون التجارب من خلال وعيهم، لكن بالنسبة لهم، تظل تلك الظواهر هي محور الدراسة، وليس التجربة الواعية نفسها. بينما في علم النفس، تتركز الدراسة على التجربة الواعية كموضوع بحد ذاته.

منهجية الاستبطان وفق فونت:

استخدم فونت طريقة الاستبطان في البحث، حيث اعتقد أن علماء النفس المدربين بإمكانهم مراقبة تجاربهم الذاتية بموضوعية. وبطريقة مشابهة للطريقة التي يتعامل بها الفيزيائيون مع ملاحظاتهم. وقد أدرك فونت أهمية تصميم تجارب محكمة وضبط المتغيرات للحصول على نتائج قابلة للتكرار. إضافة إلى اعتماده مقاييس موضوعية، مثل زمن رد الفعل (RT). ومع ذلك، ظل تركيزه الأساسي على التجربة الواعية التي تسبق الاستجابة الفعلية. فعلى سبيل المثال، إذا استغرقت إحدى التجارب وقتا أطول من غيرها، كان فونت مهتما بمعرفة كيف تختلف التجربتان الواعيتان من حيث الإدراك.

حدود اهتمام فونت والعمليات اللاواعية:

لم يكن فونت معنيا بالعمليات اللاواعية التي تحدث أثناء الاستجابة للمحفزات، مثل العمليات السريعة لمعالجة المعلومات، والتي أصبحت لاحقا جزءا مهما من دراسة علم النفس المعرفي الحديث. فقد رأى أن مثل هذه العمليات هي جزء من علم وظائف الأعضاء، وليست من ضمن اختصاص علم النفس.

مواجهة مدرسة فورزبرغ لمدرسة لايبزيغ:

في مواجهة مدرسة فونت في لايبزيغ، ظهرت مدرسة فورزبرغ للاستبطان، بقيادة كولبي، وهو طالب سابق لدى فونت. طورت هذه المدرسة نهجا بديلا لفهم التجربة الواعية من خلال الاستبطان. فعلى عكس فونت، الذي رأى أن الوعي يبنى من أسفل إلى أعلى من خلال ارتباط الأحاسيس البسيطة، اعتقد كولبي أن محتويات الوعي تحدد وفقا لطبيعة المهمة التي يؤديها الفرد، أي من أعلى إلى أسفل. وركز كولبي وزملاؤه على دراسة مهام معقدة تعتمد على عمليات ذهنية متعددة، مثل الانتباه والتعرف والرغبة.

يجدر الذكر أن الاستبطانيين قاموا بتطوير تصنيفات دقيقة للتجربة الواعية، وهو موضوع بدأ يجذب اهتمام علماء النفس المعاصرين من جديد. رغم أن علم النفس بدأ بالابتعاد عن دراسة الوعي تدريجيا، بقي الوعي محورا أساسيا للتطورات في الفنون البصرية والأدبية، مثل التكعيبية والتعبيرية في الرسم والأدب.

دور الجشطالتية في تطور علم النفس المعرفي:

أدى تطبيق المنهج الاستبطان إلى ظهور ردود فعل متعددة في الأوساط الفكرية. ففي أوروبا، اعتمد علماء نفس الجشطالت على أفكار مدرسة فورزبرغ ليجادلوا بأن الوعي لا يمكن تفكيكه إلى أحاسيس بسيطة. وفقا لفوندت، يتم إدراك الحركة على أنها سلسلة من الأحاسيس التي تعكس تنقل جسم معين في مواقع متتابعة بمرور الزمن. لكن في عام 1912، طرح ماكس فيرتهايمر فكرة مختلفة؛ فقد رأى أن الحركة يمكن إدراكها مباشرة كـ “حركة خالصة” بدون الحاجة لاستنتاجها من تغييرات مواضع الأجسام. مثال على ذلك هو ما نراه عند هبوب الرياح على العشب؛ إذ تنحني شفرات العشب تباعا، دون أن تغيّر موقعها، مما يمنحنا انطباعا عن حركة الرياح دون وجود جسم مرئي يتحرك. وقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن إدراك الحركة قد يحدث سواء من خلال التغير في موضع الجسم، أو من خلال التغيرات المتتابعة عبر الفراغ دون الحاجة لجسم متحرك.

تأثير الجشطالت على فهمنا لإدراك المثيرات:

أكد علماء الجشطالت أيضا على أهمية العلاقات بين الأشكال الزخرفية في التجربة الواعية. على سبيل المثال، تظل النغمة الموسيقية نفسها حتى إذا عزفت على مفتاح مختلف أو على آلة أخرى. فبالرغم من تغيّر الأصوات الفعلية التي تكوّن النغمة، يبقى اللحن ثابتا بسبب العلاقات والنمط المدرك بين النغمات. وهكذا، يكون اللحن موجودا في العلاقات المتصورة بين النغمات، وليس في الأحاسيس السمعية البسيطة بحد ذاتها.

ويليام جيمس ونقده للاستبطان

كان ويليام جيمس من أبرز معارضي منهج الاستبطان، وقدم بديلا عبر ما يعرف بـ “علم النفس الوظيفي”. رأى جيمس، الذي يعتبر من أوائل المؤيدين لما يعرف الآن بعلم النفس التطوري، أن أساليبنا في التفكير والشعور تطورت بسبب فائدتها في التكيف مع العالم الخارجي. وفقا له، فإن وظائف العقل كالإدراك، والتفكير، والشعور بالحزن، وحتى التجارب الدينية، هي الموضوعات التي يجب أن يدرسها علم النفس، وليس فقط محتويات الوعي الآنية التي ركز عليها الاستبطانيون. ومع ذلك، فإن أفكار جيمس في علم النفس الوظيفي سرعان ما تراجعت في أمريكا أمام التيار السلوكي الذي أصبح أكثر هيمنة.

تطور المدرسة السلوكية وتباين دوافع مؤسسيها:

دور السلوكية في تطور  علم النفس المعرفي

شهدت المدرسة السلوكية دوافع متعددة لمؤسسيها، حيث لم يتفقوا جميعا على الأهداف نفسها. كان جون واتسون، أحد أبرز دعاة هذا التيار، يسعى بشكل أساسي إلى نقل الأبحاث النفسية من المختبرات إلى التطبيق في الحياة اليومية.

لم يكن واطسون مهتما كثيرا بدراسة التجربة الواعية بشكل دقيق، بل كان تركيزه على فهم تصرفات الناس وسلوكياتهم في الحياة الواقعية، وكيفية التأثير عليهم. ولذا، كان يسعى إلى تطبيق علم النفس في مجالات متعددة مثل التعليم والعلاج النفسي. بينما لم يكن جميع السلوكيين متحمسين لتطبيق علم النفس كما كان واتسون، إلا أنهم اتفقوا على ضرورة أن يكون علم النفس علميا وموضوعيا، بمعنى أن يقتصر على دراسة السلوكيات والمحفزات التي يمكن ملاحظتها بوضوح، وتجنب التركيز على الوعي الذي لا يمكن ملاحظته بشكل علني. وعليه، دافع علماء مثل ثورندايك، وواتسون، وسكينر، وأيسنك عن منهجية علمية قائمة على تفسير السلوك من خلال محفزات يمكن ملاحظتها علنا، بهدف جعل علم النفس مشابها للعلوم الطبيعية الأخرى مثل الفيزياء والكيمياء.

العلم والكيانات غير القابلة للملاحظة:

في السعي لفهم العالم، هناك توتر دائم بين الظواهر التي يمكن ملاحظتها مباشرة، وبين الحاجة إلى افتراض كيانات نظرية غير مرئية، مثل الذرات أو القوى الخفية. من أسس العلم أن تكون المعرفة تجريبية، مبنية على الملاحظة والتجربة، ومع ذلك، تستند بعض التفسيرات العلمية إلى عناصر غير مرئية. على سبيل المثال، تعتمد الفيزياء على مفهوم “الجاذبية” لتفسير سقوط الأجسام، وعلى فكرة “المجالات المغناطيسية” لتفسير انحراف إبرة البوصلة، رغم أن هذه المفاهيم غير قابلة للملاحظة المباشرة. وبالمثل، يعتمد الكيميائيون على مفاهيم مثل مستويات الطاقة الإلكترونية لتفسير تفاعلات المواد، رغم عدم إمكانية رؤية هذه المستويات بشكل مباشر. لذا، القبول بوجود كيانات غير مرئية في العلم يتوقف على مدى قدرتها على تقديم تفسيرات مفيدة ومقبولة علميا.

معايير القبول العلمي للبنى غير القابلة للملاحظة:

يقبل العلم الكيانات النظرية غير المرئية إذا كانت قادرة على تفسير الظواهر بشكل دقيق ومفيد. على سبيل المثال، رغم أن فكرة “الجاذبية” واجهت في البداية بعض الانتقادات، إلا أن قدرتها على تفسير حركة الكواكب والمد والجزر بالإضافة إلى دقتها الرياضية جعلتها مقبولة علميا. كذلك، عندما قدم مندل مفهوم “وحدات الوراثة” لتفسير الوراثة في النباتات، كان القبول العلمي له أعلى بعد التقدم التكنولوجي الذي مكن العلماء من رؤية الكروموسومات والجينات بشكل مباشر. لذا، يعتمد العلم على الكيانات النظرية لتقديم تفسيرات مفيدة، ويبقى تقبّل هذه الكيانات قائما على فائدتها وموثوقيتها.

تأثير السلوكية وتوجهها نحو الملاحظة العلنية:

أثرت فكرة التركيز على ما يمكن ملاحظته على جميع العلوم، بما فيها علم النفس. ومع تراجع منهج الاستبطان، تبنى الباحثون السلوكية بشكل واسع، خصوصا في الولايات المتحدة، مما أدى إلى تهميش دراسة الوعي. يرى بعض السلوكيين أنه يمكن الاعتراف بوجود الوعي، لكن لا داعي لدراسته علميا. بينما ذهب آخرون إلى القول بأن الوعي ليس له معنى علمي. وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر بين السلوكيين، إلا أن البعض، مثل سكينر، قبل بوجود أحداث عقلية داخلية (مثل الوعي)، لكنه رأى ضرورة تجنبها في علم النفس العلمي.

تفسير السلوكية للظواهر المعقدة وتحدياتها:

سعى علماء السلوك إلى تفسير السلوكيات المعقدة من خلال مبادئ التعلم. فعلى سبيل المثال، كان هناك تفسير سلوكي لنطق الجملة على أنه سلسلة من أزواج التحفيز والاستجابة، حيث تثير كل كلمة نطق الكلمة التالية. ورغم أن التفسيرات السلوكية قدمت تصورا لبعض الأنشطة المعقدة، إلا أنها كانت محدودة في تفسير العمليات العقلية العليا، مثل إنتاج وفهم اللغة، وحل المشكلات، والتخطيط. وقد أثار هذا التوجه انتقادات من بعض علماء النفس الذين رأوا أن السلوكية تتجاهل جانبا مهما من الظواهر النفسية، مما أدى لاحقا إلى تطوير منهجيات تركز على العمليات العقلية.

عودة علم النفس المعرفي وتحدي السلوكية:

في عام 1948، ألقى كارل لاشلي محاضرة في ندوة هيكسون بعنوان “مشكلة النظام التسلسلي في السلوك”، حيث انتقد بشدة التفسيرات السلوكية للعمليات المعقدة، لا سيما في الحالات التي يعتمد فيها تسلسل السلوكيات على بعضها البعض رغم تداخلها مع أجزاء متعددة. وكمثال، لاحظ لاشلي أنه في إنتاج اللغة، لا يمكن اعتبار كل كلمة على أنها محفز يؤدي إلى الكلمة التالية، بل أن بناء الجمل قد يتطلب الاعتماد على كلمات سابقة في تسلسل أطول. كما لاحظ أيضا أن بعض التسلسلات السلوكية، مثل حركة أصابع عازفي البيانو أو الطابعين على الآلة الكاتبة، تتم بسرعة فائقة لا تسمح بأن تكون كل حركة محفزا للحركة التالية. بدلا من ذلك، افترض لاشلي أن هذه التسلسلات يتم تخطيطها وتنظيمها مسبقا، مما يضع الأساس لتطوير علم النفس المعرفي.

نقد تشومسكي للنهج السلوكي في دراسة اللغة:

كان نقد نعوم تشومسكي للنهج السلوكي في كتابه “السلوك اللفظي” (1957) نقطة تحول كبيرة في تأسيس المنظور المعرفي للغة. جادل تشومسكي بأن اللغة ليست مجرد سلسلة من الاستجابات المتعلمة لمجموعة من المحفزات، حيث أن الأطفال يكتسبون لغتهم الأولى بسهولة ودون تعليم رسمي، بينما يتطلب تعلم لغة ثانية جهدا أكبر. كما أشار إلى أن الأطفال يتعلمون قواعد لغتهم الأم، حتى عندما يتعرضون لكلام غير نحوي، مما يثبت أن تعلم اللغة يعتمد على قواعد عميقة وليست على روابط مباشرة بين المحفزات والاستجابات. بناء على ذلك، اعتبر تشومسكي أن معرفة اللغة تتطلب فهما للقواعد التنظيمية التي لا يمكن ملاحظتها مباشرة. مما يجعل دراسة اللغة جزءا من علم النفس المعرفي.

جذور المعرفية في علم النفس الحديث:

رغم أن النظريات المعرفية حول التخطيط والتنظيم اكتسبت رواجا في الخمسينيات. إلا أن هذه الأفكار كانت موجودة منذ وقت سابق في علم النفس. فقد أشار علماء نفس الجشطالت إلى أهمية التنظيم في الإدراك. وقدموا أمثلة على القدرة على تذكر اللحن وغنائه، مما يدل على تعلم العلاقات المجردة بين النغمات بدلا من الروابط المباشرة بين المحفزات والاستجابات. كما أظهرت تجارب تولمان، الذي يمثل “السلوكية المعرفية”، أن الفئران التي تعلمت الاتجاهات في المتاهة تستطيع تطبيقها في بيئات جديدة، مما يشير إلى تعلمها لمفاهيم أكثر تجريدية.

التأثيرات التكنولوجية والتحولات الفكرية في القرن العشرين:

شهد منتصف القرن العشرين تغييرات فكرية هامة مع التطور السريع للتكنولوجيا، مما مكن العلماء من فهم الأنظمة المعقدة بشكل أفضل. ورغم أن السلوكية سعت لاتباع نهج علمي يركز على الأسباب السابقة للسلوك، بدأت التفسيرات السببية البحتة تثير تساؤلات في بعض الحالات، خاصة مع التطور التدريجي للأجهزة الاصطناعية المعقدة. ومع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن تفسير سلوك النظام بأكمله يتطلب النظر في وظيفته وأهدافه، وليس مجرد الأسباب المباشرة. وبذلك، عادت أهمية التفسيرات الهادفة والغائية لتأخذ مكانها في بعض الأبحاث العلمية، مما ساهم في تراجع السلوكية وتقدم المنهج المعرفي.

الحواسيب وفهم العقل:

دور التكنولوجيا في تطور علم النفس المعرفي

شهد منتصف القرن العشرين تقدما بارزا في مجال علم النفس المعرفي من خلال تطوير الحواسيب. بدأ هذا التوجه بمساهمات مبكرة مثل أعمال كلود شانون في عام 1938، التي بيّنت كيفية تنفيذ العمليات المنطقية عبر دوائر كهربائية بسيطة. في أربعينيات القرن الماضي، قدّم ماكولوتش وبيتس نماذج تشير إلى إمكانية محاكاة الخلايا العصبية باستخدام منطق بسيط، مما أوحى بأن وظائف الدماغ قد تكون قابلة للتنفيذ في دوائر كهربائية.

في تلك الفترة أيضا، شهدت ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين تطورات محورية في مجال الحساب ومعالجة المعلومات. ففي عام 1936، طور آلان تورينغ “آلة تورينغ” التي تتيح حساب أي دالة رياضية من خلال خطوات قابلة للتنفيذ. بينما ساهم شانون وويفر في صياغة مفهوم المعلومات ونقلها باستخدام الرياضيات. وعلى الجانب العملي، ظهرت تطورات تقنية مثل الحاسوب القابل للبرمجة المتعدد الأغراض الذي صممه كونراد تسوزه عام 1941. ثم جهاز “كولوسس” عام 1943، وجهاز “مارك 1” في جامعة مانشستر عام 1948.

اختبار تورينغ: هل تستطيع الحواسيب التفكير؟

طرح آلان تورينغ في عام 1950 اختبارا معروفا باسم “اختبار تورينغ”. والذي اقترح أنه إذا تمكّن جهاز كمبيوتر من محاكاة السلوك البشري بنجاح بحيث لا يستطيع شخص آخر التمييز بينه وبين الإنسان. فيمكننا القول إنه “يفكر”. كان لهذا الاختبار تأثير عميق في مجال الذكاء الاصطناعي. الذي بدأ رسميا في مؤتمر دارتموث عام 1956، حين صاغ جون مكارثي مصطلح “الذكاء الاصطناعي”. كان هذا المجال الجديد يسعى إلى فهم الذكاء وإمكانية تكرار العمليات العقلية على الآلات. مما أعاد توجيه الأبحاث العلمية نحو دراسة العقل من خلال محاكاة الذكاء.

دور الحواسيب في علم النفس المعرفي

استفاد علم النفس المعرفي من الحواسيب بشكل كبير. حيث تم استخدامها كأداة بحثية للتحكم في التجارب، وتقديم المحفزات، وتسجيل وتحليل البيانات. وأصبح الباحثون يعتمدون عليها كنماذج لفهم العمليات العقلية المعقدة. مثلا، إذا كان بإمكان جهاز الكمبيوتر تنفيذ عمليات منطقية ومعالجة معلومات. فقد يمدنا هذا برؤية واضحة حول كيفية أداء العقل البشري لمثل هذه العمليات.

تطوير النماذج في علم النفس المعرفي

يتبنى علم النفس المعرفي مقاربة مشابهة للعلوم الأخرى التي تستخدم كيانات نظرية غير مرئية لتفسير الظواهر الملاحظة. فبدلا من التركيز الحصري على السلوك القابل للملاحظة كما يفعل السلوكيون. يقوم علماء النفس المعرفي ببناء نماذج افتراضية لتمثيل العمليات العقلية التي قد لا تكون مرئية مباشرة. على سبيل المثال، يتم وضع نماذج توضح كيفية إنتاج اللغة وفهمها، مما يعزز من القدرة على التنبؤ بالسلوك.

تتميز الحواسيب بقدرتها على التعامل مع النماذج المعقدة التي يصعب التعبير عنها لفظيا أو التي تحتوي على تفاصيل يصعب متابعتها يدويا. من خلال محاكاة النماذج على الحواسيب، يمكن للباحثين اختبار التنبؤات والسيناريوهات المختلفة بسرعة ودقة. كما تساعد الحواسيب على اكتشاف تناقضات داخلية في النماذج المعرفية، إذ إن تشغيل البرنامج يظهر مدى دقة النموذج وتماسكه.

تقنيات تصوير الدماغ: نافذة على العمليات العقلية

التصوير بالرنين المغناطيسي

تتيح التقنيات الحديثة مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) إمكانية مراقبة نشاط مناطق معينة من الدماغ خلال أداء مهام معينة، مما يعزز فهم العمليات العقلية التي كانت في السابق غير قابلة للملاحظة. ورغم استمرار النقاش حول مدى فائدة هذه التقنيات، فإنها تمثل خطوة مهمة في جعل دراسة العقل أكثر علمية وتحديدا.

خاتمة:

في الختام، يتضح أن تطور علم النفس المعرفي لم يكن عملية خطية أو حدثا محددا، بل هو نتيجة لمراحل متعددة من التفكير والتجريب والنقد. انطلق من الاستبطان ودراسة التجربة الواعية، مرورا بردود الفعل ضد السلوكية، وصولا إلى الاستفادة من الحواسيب كنماذج للعمليات العقلية المعقدة، وفتح آفاق جديدة بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي. ومع تطور التكنولوجيا الحديثة مثل تقنيات تصوير الدماغ، يواصل علم النفس المعرفي توسيع فهمه للعمليات العقلية، مما يقربه من العلوم الدقيقة ويمكّننا من الغوص بعمق أكبر في أسرار العقل البشري.

مراجع:

APA Dictionary of Psychology. Cognitive map. American Psychological Association.

Sternberg RJ, Sternberg K. Cognitive Psychology. Wadsworth/Cengage Learning. 

Krapfl JE. Behaviorism and societyBehav Anal. 2016;39(1):123-9. doi:10.1007/s40614-016-0063-8

Cutting JE. Ulric Neisser (1928-2012)Am Psychol. 2012;67(6):492. doi:10.1037/a0029351

Ruggiero GM, Spada MM, Caselli G, Sassaroli S. A historical and theoretical review of cognitive behavioral therapies: from structural self-knowledge to functional processesJ Ration Emot Cogn Behav Ther. 2018;36(4):378-403. doi:10.1007/s10942-018-0292-8

Parvin P. Ulric Neisser, cognitive psychology pioneer, dies. Emory News Center.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *