تعتبر نظرية جان بياجيه في النمو المعرفي واحدة من أهم النظريات في هذا المجال، وتهتم هذه النظرية بتفسير ودراسة كيفية تطور ونمو القدرات العقلية والمعرفية للفرد وفق مراحل مختلفة من الحياة. تعتبر نظريات النمو المعرفي من أهم النظريات التي تساعدنا على فهم هذا التطور وتأثيره على السلوك والتعلم.
نظرية بياجيه للنمو المعرفي:

جان بياجيه (1896-1980) كان عالم نفس بارزا في القرن العشرين، معروفا بإسهاماته الرائدة في علم نفس تطور الطفل. رفض بياجيه الفكرة المتداولة التي تنص على أن المعرفة تكون غريزية أو متأصلة. بالمقابل، آمن بأن فهم الطفل ومعرفته بالعالم ينموان تدريجيا من خلال التجارب والتفاعل المباشر مع محيطه.
نظرياته حول التقدم المعرفي وترابطها مع نظرياته المعرفية كانت أساسا لتطوير نظرية المعرفة الجينية. بياجيه اشتهر خصوصا بتحليله لكيفية قيام الأطفال ببناء المخططات الذهنية التي تؤثر على فهمهم وإدراكهم وتقييمهم للواقع. قسم تطور الطفل إلى أربع مراحل رئيسية: المرحلة الحسية الحركية من الولادة حتى 18 إلى 24 شهرًا، المرحلة ما قبل العمليات من عمر السنتين إلى السابعة، المرحلة التشغيلية الملموسة من السابعة إلى الحادية عشرة، المرحلة التشغيلية الرسمية التي تبدأ من حوالي سن الحادية عشر وتمتد حتى المراهقة.
مراحل النمو المعرفي حسب بياجيه:
المرحلة الحسية الحركية: (0 إلى 2 سنة)
تنطلق المرحلة الحسي الحركي من لحظة الولادة مستمرة حتى يبلغ الطفل عاميه الأولين. في هذه الفترة، يستكشف الطفل بيئته من خلال اللمس والحركة، مرورًا بست مراحل فرعية تبرز تطور تفاعله مع محيطه.
- ردود الفعل الأولية (0-1 شهر): يستخدم الطفل بشكل رئيسي ردود الفعل الفطرية للتفاعل مع بيئته، مثل مص الأشياء أو الإمساك بها.
- ردود الفعل الدائرية الأولية (1-4 أشهر): يبدأ الطفل بتنسيق تصرفاته وتكرار السلوكيات الممتعة، مثل مص الإبهام.
- ردود الفعل الدائرية الثانوية (4-8 أشهر): يبدأ الطفل باستكشاف بيئته بشكل فعّال من خلال تكرار الأفعال التي تؤدي إلى نتائج مثيرة للاهتمام، مثل هز الخشخيشة لسماع الضجيج.
- تنسيقات المخطط الثانوي (8-12 شهراً): تنمي لدى الطفل القدرة على تنسيق عدة إجراءات لتحقيق هدف، مثل سحب بطانية لإسقاط لعبة.
- ردود الفعل الدائرية الثالثة (12-18 شهراً): يبدأ الطفل في تجربة أفعال جديدة وملاحظة النتائج، وتعديل السلوكيات لتحقيق تأثيرات مختلفة.
- بداية التفكير الرمزي (18-24 شهراً): تنمي لدى الطفل القدرة على تمثيل الأشياء والأحداث ذهنياً، مما يسمح له بفهم الرموز مثل الكلمات والصور.

مرحلة ما قبل العمليات الملموسة: (من 2 إلى 6/7 سنوات)
يعرّف الإطار الزمني لمرحلة ما قبل العمليات الملموسة، التي تنطلق عادة حين يصل الطفل إلى عمر السنتين، بكونها المرحلة التي يبدأ فيها الطفل بالتعبير والتفكير من خلال استخدام الرموز والإشارات، أو ما يعرف بالوظيفة السيميائية. خلال هذه الفترة، يبرز خمسة أنماط سلوكية رئيسية:
التقليد، اللعب الرمزي، الرسم، تكوين الصور الذهنية، والتذكر اللفظي للأحداث.
التقليد، وبخاصة التقليد المؤجل، يحدث عندما يقوم الطفل بمحاكاة سلوك معين حتى بعد زوال المحفز الأصلي. مثلا، قد يحاكي الطفل طريقة مشي شخص ما حتى بعد أن يغادر هذا الشخص.
اللعب الرمزي، الذي يتجاوز التقليد، يظهر عندما يستخدم الطفل الأشياء لتمثيل شيء آخر في سياق تخيلي.
وعلى صعيد الرسم، يبدأ الأطفال في مرحلة ما قبل العمليات بتجسيد أفكارهم ومحيطهم من خلال الرسومات، التي تطور من مجرد خربشات إلى تمثيلات تصويرية للعالم حولهم. يساعد هذا النشاط الطفل على فهم أن الرسومات تمثل أشياء واقعية وليست الأشياء بحد ذاتها.
مع تطور هذه الأنماط، يبدأ الطفل في تشكيل صور ذهنية معقدة واستخدام اللغة لتقليد الأحداث الماضية وسردها، ما يعد خطوة مهمة في تطور الوظيفة السيميائية، حيث يعكس قدرة الطفل على التفكير وفهم العالم من حوله بشكل أعمق وأكثر تجريدًا.
مرحلة العمليات الملموسة:(7/8 سنوات إلى 11/12 سنة)
مرحلة العمليات الملموسة تبدأ في الغالب عندما يصل الأطفال إلى سن السابعة، مما يمثل نهاية للسلوك الأناني الملاحظ في مراحلهم السابقة، وتستمر هذه المرحلة حتى يبلغوا الحادية عشرة من عمرهم. خلال هذه الفترة، يبدأ الأطفال في تطبيق المنطق على الكيانات والأشياء التي يمكن لمسها ورؤيتها، مثل التعامل العقلي مع الأشياء وتعديل فهمهم لها.
حيث يظهر مفهوم الاحتفاظ، حيث تبقى بعض الخصائص ثابتة رغم التغييرات الظاهرية، يعد من المهارات الرئيسية المكتسبة خلال هذا الوقت. على سبيل المثال، يفهم الأطفال أن الحجم يبقى ثابتًا حتى عند تغيير شكل الوعاء الذي يحتويه.
من الإنجازات المبكرة لهذه المرحلة أن يدرك الطفل أن كمية مادة معينة، مثل الصلصال، لا تتغير عند تشكيلها بأشكال مختلفة. بحلول التاسعة من العمر، يبدأ الأطفال أيضًا في فهم أن الوزن يظل ثابتًا رغم التغييرات في الشكل. الفهم الكامل للحفظ يأتي عندما يستوعب الطفل بشكل كلي أن الخصائص الأساسية للأشياء لا تتغير مع التحولات التي تطرأ عليها.
إدراك الطفل للاحتفاظ يشمل أيضا تعلم كيفية تطبيق المفاهيم الرقمية. مثل العد، لإدراك أن الكمية تبقى ثابتة حتى عند توزيعها على مساحة أوسع. هذه القدرة تتيح للطفل مقارنة مجموعتين مختلفتين من العناصر، معترفًا بأن العدد لا يتغير بتغيير المسافة بين العناصر. مع تعمق فهمهم للحفظ، يبدأ الأطفال في استكشاف المفاهيم المنطقية المعكوسة، مثل الانقلاب والمعاملة بالمثل، حيث يعترفون أن تغييرات في الأبعاد تحافظ على الكمية ذاتها.
الطفل الذي يفهم الانقلاب يدرك أن عكس تحول معين لا يغير النتيجة النهائية، ومع المعاملة بالمثل، يتعلم أن التغيير في بُعد واحد يتوازن بتغيير في بُعد آخر. بالإضافة إلى الحفظ والقابلية العكسية، يتعلم الأطفال خلال مرحلة العمليات الملموسة كيفية تصنيف الأشياء حسب خصائص مثل الشكل أو النوع، مما يعزز قدرتهم على التفكير المنظم والمنطقي.
مع تقدم الأطفال في مرحلة العمليات الملموسة، يتعمق فهمهم لعلاقات السبب والنتيجة ويتطور قدرتهم على تنظيم الأفكار والمفاهيم بطريقة منطقية. يصبحون قادرين على تنفيذ عمليات عقلية متعددة في وقت واحد، مثل تصنيف الأشياء حسب عدة معايير مختلفة في آن واحد، مما يعكس تطور قدرتهم على التفكير المجرد والتحليلي.
أحد الجوانب الرئيسية لهذه المرحلة هو تطور القدرة على استيعاب مبدأ العدد، حيث يتعلم الأطفال أن الأرقام تمثل كميات محددة، وهذه الكميات لا تتغير بتغيير ترتيب الأشياء أو شكلها. يبدأ الأطفال أيضًا في فهم مفاهيم الجبر البسيط، مثل التعرف على أن العلاقة بين الأرقام لا تتأثر بالتغييرات في تمثيلها المادي.
خلال مرحلة العمليات الملموسة، يتقن الأطفال أيضًا مهارات مثل التصنيف، حيث يمكنهم تجميع الأشياء في فئات بناء على خصائص مشتركة، والتسلسل، حيث يمكنهم ترتيب العناصر أو الأحداث في تسلسل منطقي. هذه المهارات تمهد الطريق لتطور القدرات الرياضية والعلمية المتقدمة.
كما يتعلم الأطفال في هذه المرحلة التعامل مع القوانين المنطقية في سياقات مختلفة ويبدأون في استخدام عمليات التفكير لحل المشكلات بطرق أكثر تعقيدا. يصبحون قادرين على تقييم النتائج المحتملة للأفعال واتخاذ قرارات مبنية على استدلالات منطقية بدلا من الاعتماد فقط على التجربة الحسية.
بنهاية مرحلة العمليات الملموسة، يكون الأطفال قد اكتسبوا مجموعة واسعة من المهارات الفكرية التي تؤسس للمراحل المتقدمة من التفكير المنطقي والتحليلي، مما يجهزهم للانتقال إلى المرحلة التشغيلية الرسمية، حيث يتطور التفكير المجرد والقدرة على التفكير النقدي بشكل أعمق.
مرحلة العمليات المجردة: (من 11/12 سنة فما فوق)
تمثل مرحلة العمليات المجردة الجزء النهائي من تطور الفكر المعرفي للفرد، وهي تبدأ عادة في سن الحادية عشر وتستمر حتى الوصول إلى مرحلة النضج. خلال هذه الفترة، يبدأ المراهقون بتوظيف المنطق في التعامل مع الأفكار المجردة وتجاوز المعطيات الملموسة لاستكشاف الإمكانيات وصياغة الحلول. يتم خلالها تطوير التفكير النقدي من خلال الاستدلال الافتراضي، التفكير الاقتراحي، وأخيرا، تحليل واختبار المتغيرات.
في البداية، يستخدم المراهقون المعلومات العامة لبناء فرضيات محددة واستخلاص الاستنتاجات بناءً على الاستدلال. تتطور بعد ذلك قدرتهم على الفكر القضائي، حيث يمكنهم التعامل مع مفاهيم معقدة دون الحاجة إلى دعم مادي مباشر. هذا النوع من التفكير يتيح لهم فهم العلاقات المنطقية كـ “إذا كانت A أصغر من B وB أصغر من C، فإن A تكون أصغر من C” وتوقع النتائج دون الحاجة إلى التحقق التجريبي.
في المراحل المتقدمة، يتعلم المراهقون كيفية عزل المتغيرات وتقييم تأثيراتها لفهم العلاقات السببية، استنادا إلى النظريات وليس فقط التجربة. مستخدمين قدراتهم التحليلية لاستقراء النتائج بدلا من الاعتماد على التجربة الفعلية. بخلاف الأطفال في مرحلة العمليات الملموسة، الذين يعتمدون على البيانات المرئية والملموسة، يستطيع المراهقون في هذه المرحلة استخدام المعلومات المجردة لتحليل المواقف وصياغة الاستنتاجات حول تفاعلات معقدة دون الحاجة إلى مشاهدتها فعليا.
ألية النمو حسب بياجيه:

تؤكد نظرية بياجيه على الدور الفعال الذي يقوم به الأطفال في تشكيل تطورهم المعرفي. وفقا لبياجيه، الأطفال لا يمثلون مجرد مستقبلين سلبيين للمعلومات، بل يقومون بفحص واستكشاف بيئتهم بشكل فعال. يعتبر هذا التفاعل الديناميكي مع البيئة عنصرا حاسما لأنه يمكن الأطفال من تطوير فهمهم ومعرفتهم للعالم بطريقة تدريجية.
أسس آلية النمو حسب بياجيه:
أثناء عمله في معهد بينيه خلال العقد الثاني من القرن العشرين. تولى بياجيه مهمة صياغة نسخ فرنسية لأسئلة اختبارات الذكاء الإنجليزية. انجذب اهتمامه إلى الأسباب التي يعطيها الأطفال لإجاباتهم غير الصحيحة على الأسئلة التي تطلب تفكيرا منطقيا، ملاحظا أن هذه الإجابات توفر نظرة ثاقبة حول كيفية اختلاف تفكير الأطفال عن البالغين.
افتراضات بياجيه بشأن الذكاء عند الأطفال:
ينظر بياجيه إلى ذكاء الأطفال على أنه مختلف جوهريا عن ذكاء البالغين، مشددا على أن طريقة تفكير الأطفال وإدراكهم للعالم تختلف عن تلك عند البالغين. يؤمن بأن الأطفال ينخرطون بنشاط في بناء معرفتهم ولا ينتظرون ببساطة تلقي المعلومات. يعتقد بياجيه أن فهم تفكير الأطفال يتطلب محاولة رؤية العالم من منظورهم.
لم يكن الهدف من بحث بياجيه قياس قدرات الأطفال التقليدية مثل العد أو التهجئة أو حل المشكلات، بل كان مهتما أكثر بكيفية تكوينهم للمفاهيم الأساسية مثل الزمن، الكمية، السببية، والعدالة.
عبر ملاحظة أطفاله وغيرهم من الأطفال الأكبر سنا، وتوثيق تطورهم في مذكرات، بالإضافة إلى استخدام المقابلات السريرية، استطاع بياجيه تطوير نظريته التي أحدثت ثورة في فهم نمو الطفل المعرفي.
تميزت نظرية بياجيه (1936، 1950) للنمو المعرفي بتقديمها رؤية فريدة لكيفية تكوين الأطفال لفهمهم الخاص بالعالم من حولهم. بياجيه لم يوافق على النظرية التي تعتبر الذكاء خاصية ثابتة، بل رأى أن التطور المعرفي هو نتيجة للنمو البيولوجي والتجارب البيئية.
يشهد الأطفال تطورا في قدرتهم على استيعاب ومعالجة وحل المشكلات بشكل مرحلي وغير متصل (عكس التطور المستمر). تركز هذه النظرية على الطفولة دون غيرها من مراحل العمر، تعطي الأولوية للنمو الذاتي عوضا عن التعلم المباشر، ولذا لا تعالج مسألة اكتساب المعلومات أو السلوكيات بشكل مباشر.
تقدم النظرية تصورا لمراحل متميزة من النمو تبرز فيها تحولات جوهرية بدلاً من مجرد تزايد تدريجي في كمية وتعقيد السلوكيات والمفاهيم. تهدف النظرية إلى تفسير العمليات والآليات التي ينتقل بها الطفل من مرحلة الرضاعة إلى أن يصبح قادرا على التفكير والاستنتاج المنطقي.
لدى بياجيه، يعتبر النمو المعرفي إعادة هيكلة مستمرة للعمليات الذهنية، ناشئة عن التطور البيولوجي والتفاعل مع البيئة. يقوم الأطفال ببناء تصوراتهم حول العالم، ويواجهون باستمرار تحديات تنشأ عن التباينات بين ما يعرفونه وما يكتشفونه في بيئتهم
المخططات (الاسكامات):
يرى بياجيه أن المعرفة لا تنبثق مباشرة من الخبرات الحسية فحسب؛ بل يجب أن تكون هناك بنية أساسية موجودة مسبقا لتمكين فهم العالم. يرى بياجيه أن الأطفال يأتون إلى العالم وهم مزودون بإطار عقلي بدائي (موروث ومطور عبر الجينات) يشكل أساس كل التعلم والمعرفة التي ستتبع. المخططات، في تصور بياجيه، هي الأسس التي تُبنى عليها هذه النماذج المعرفية، وتساعدنا على إنشاء تمثيل ذهني للعالم.
عرّف بياجيه (1952) المخطط بأنه “سلسلة من الأفعال المتسقة والمكررة التي تشكل سلسلة مترابطة تحكمها دلالة مشتركة”. بتعبير أبسط، وصف المخططات كأساسيات للسلوك الذكي – أداة لتنظيم المعرفة، ويمكن اعتبارها كوحدات معرفية تتعلق كل واحدة منها بجزء محدد من العالم، شاملة الأشياء والأفعال والمفاهيم المجردة.
يشير Wadsworth (2004) إلى أن المخططات يمكن تصورها كـ”بطاقات فهرسة” في الدماغ، توجه الفرد بكيفية الاستجابة للمثيرات أو البيانات الجديدة. عندما كان بياجيه يتحدث عن تطور الوظائف العقلية، كان يعني بذلك الزيادة في عدد وتعقيد المخططات التي يكتسبها الفرد.
يكون الطفل في حالة توازن معرفي عندما تكون مخططاته كافية لتفسير ما يستشعره من العالم المحيط. العمليات هي بنى عقلية معقدة تتيح دمج المخططات بطرق منطقية ومعقولة. مع النمو، يصبح الأطفال قادرين على التعامل مع عمليات أعقد وتصور سيناريوهات افتراضية.
بالإضافة إلى المخططات الفطرية، نولد أيضا بقدرات عقلية أولية، ولكننا نطور المزيد من المخططات والعمليات من خلال التجربة والتفاعل مع الأفراد والبيئة من حولنا.
شدد بياجيه على الدور الحاسم للمخططات في تطور الفهم المعرفي وبيّن طريقة تكوينها أو اكتسابها. المخطط هو مجموعة من التمثيلات الذهنية المتصلة التي نعتمد عليها لفهم الحوادث والتفاعل معها. يفترض أن هذه التمثيلات تُخزن في الذهن وتُستدعى للاستخدام عند الضرورة.
على سبيل المثال، قد يمتلك الشخص مخططًا لكيفية تناول الطعام في مطعم يتضمن قراءة القائمة، طلب الطعام، تناوله، ودفع الفاتورة. يُطلق على هذا المخطط اسم “البرنامج النصي”، حيث يستدعي الشخص هذا المخطط من الذاكرة ويطبقه على الوضع.
بياجيه وصف المخططات بأنها أكثر بساطة، خصوصا تلك المستخدمة بواسطة الأطفال الصغار. موضحا أنها تتطور وتصبح أكثر تعقيدا مع نمو الطفل. يعتقد أن لدى الرضع مخططات فطرية، تشكل الأساس للهياكل المعرفية التي تدعم الاستجابات الغريزية، المبرمجة جينيًا.
مثال على ذلك هو منعكس المص الذي يتفعل عند لمس شفتي الرضيع. يُظهر هذا أن لدى الطفل “مخطط المص”. كذلك منعكسات كالإمساك والتجذير هي أمثلة على المخططات الفطرية.
تكيف الطفل يأتي نتيجة للنضج والتفاعل مع البيئة، مطورا هياكل ذهنية تساعده على التعامل مع تحدياتها. التكيف هو العملية التي يُعدل من خلالها الطفل نماذجه الذهنية لتطابق الواقع بشكل أدق، وذلك من خلال الاستيعاب والتكييف.
تعتبر هذه الرؤية مهمة لأنها تعتبر الطفل عاملًا فعالا في تطويره، وليس مجرد مستقبل للتأثيرات البيولوجية أو البيئية. يحدث اختلال التوازن عندما تفشل مخططات الطفل الحالية في تفسير تجربة جديدة، مما يحفز الدافع نحو التعلم.
بحسب بياجيه، إعادة الهيكلة لمستويات أعلى من التفكير تتطلب جهدا، حيث يجب على الطفل إعادة تقييم نظرته للعالم. خاصة عند مواجهة صراعات معرفية تحفز على اختلال التوازن وتدفع نحو التطور الذهني. رأى جان بياجيه (1952؛ انظر Wadsworth ، 2004) أن النمو الفكري هو عملية التكيف مع العالم. يحدث هذا من خلال الاستيعاب والتكيف والتوازن. للعودة إلى حالة التوازن، نحتاج إلى تعديل مخططاتنا الحالية للتعلم والتكيف مع الوضع الجديد. ويتم ذلك من خلال عمليات المواءمة والاستيعاب. هذه هي الطريقة التي تتطور بها مخططاتنا وتصبح أكثر تعقيدا. عمليات الاستيعاب والمواءمة مستمرة وتفاعلية.
الاستيعاب:
بياجيه وصف الاستيعاب بأنه عملية دمج المعلومات الجديدة ضمن الإطارات المعرفية القائمة، دون تغيير النظريات الأساسية أو الفهم العام للعالم. يقع الاستيعاب في الأوقات التي تتشابه فيها التجارب الجديدة مع تجارب سابقة مألوفة، حيث ندمج الحدث الجديد مع مخطط معرفي قائم.
هذا يعني أننا، عند الاصطدام بمعلومات جديدة، نفسرها من خلال الاستعانة بما نعرفه مسبقًا. (المعلومات التي تمت معالجتها وتعلمها من قبل)، محاولين دمج هذه المعلومات الجديدة مع قاعدة المعارف الحالية.
الأمثلة فكر في طفل لم ير إلا كلابا صغيرة في حياته. عندما يشاهد قطة لأول مرة، قد يطلق عليها اسم “كلب”. لأن لديها أطرافا أربعة وفروا وذيلا، ما يتوافق مع المخطط الحالي لديه عن الكلاب. شخص يعتقد أن كل الطيور تطير قد يصنف البطريق كطائر يطير لأن فهمه السابق للطيور يشمل القدرة على الطيران. طفل يبلغ من العمر سنتين قد يصرخ “مهرج!” عند رؤيته رجلًا برأس أصلع وشعر مجعد على الجوانب. مما يثير ذعر والده لأن الطفل يربط هذا المظهر بمخططه للمهرجين. إذا تعلم الطفل كيفية التقاط خشخيشة، فسيطبق نفس المخطط (الإمساك) لالتقاط أي شيء آخر.
المواءمة
المواءمة تحدث عندما نواجه تجربة جديدة تختلف كليا عما سبق وعرفناه. مما يضطرنا لتعديل مخططاتنا الذهنية بشكل كبير أو حتى تطوير مخطط جديد كليا. بياجيه، يصف التكيف كعملية يعاد فيها تقييم وتعديل الإطارات المعرفية لتتسع للمعطيات الجديدة.
هذا يقع عندما يفشل المخطط القائم في الاستجابة بشكل كاف، ويستدعي التغيير للتكيف مع الظروف أو المواقف الجديدة. لاستيعاب المعلومات الجديدة بشكل فعال، قد يحتاج الشخص إلى إعادة تكوين المخططات القائمة لديه.
الأمثلة عندما يحاول طفل التقاط جسم صغير جدا باستخدام المخطط القديم ولا ينجح. قد يعدل طريقته ويستخدم أصابعه بطريقة أدق للإمساك بالجسم. قد يمتلك طفل مخططا للطيور يشمل الريش والطيران. وعندما يشاهد طائرة تطير، قد يجد أنها لا تتطابق مع مخطط الطيور لديه، مما يحتم تعديل هذا المخطط. في حالة الطفل الذي ظن أن رجلا بشعر مجعد هو “مهرج”، يُعلمه والده بأن المهرجين لا يقتصرون على مظهر الشعر فقط. بل يرتدون زيا معينا ويؤدون تصرفات معينة لإضحاك الناس. مع هذه المعلومات الجديدة، يغير الطفل مخططه عن المهرجين. شخص كان يعتقد أن جميع الثعابين خطيرة قد ينتقل إلى بيئة جديدة حيث الثعابين غير ضارة. بعد التعلم والمراقبة، يمكن أن يُعدل اعتقاده ليعترف بأن ليس كل الثعابين تشكل خطرا.
التوازن
يؤمن بياجيه بأن العقل البشري يسعى دائما للنظام ويجد عدم الراحة في مواجهة الإشكاليات والتضارب في المعرفة المكتسبة. بكلمات أخرى، نحن نطمح لتحقيق “التوازن” في أطرنا المعرفية. التوازن يتحقق عندما تكون مخططات الطفل قادرة على استيعاب الغالبية العظمى من المعلومات الجديدة. ومع ذلك، ينشأ شعور بعدم الراحة عندما تفشل المخططات الحالية في استيعاب المعلومات الجديدة.
يعتقد بياجيه أن التقدم في النمو المعرفي لا يحدث بشكل متساو، بل يتخذ خطوات. السعي نحو التوازن يُعد الدافع وراء التعلم حيث أن عدم الرضا يحفزنا على تجاوز التحديات الجديدة. واستعادة حالة التوازن عبر التكيف.
بعد استقبال المعلومات الجديدة، تتواصل عملية الاستيعاب ضمن المخطط الجديد حتى نواجه ضرورة تعديله مرة أخرى. التوازن يمثل آلية تنظيمية تحافظ على توازن بين الاستيعاب والتكيف، مما يعزز النمو المعرفي. من المهم الإدراك بأن الاستيعاب وحده غير كافٍ. فبدون التكيف، لن نتمكن من تعلم أو استيعاب أية مفاهيم أو قواعد جديدة. كل تجربة جديدة ستُفسر من خلال الأطر التي لدينا بالفعل. ومن دون التكيف، سيظل كل جديد يبدو غريبا . ولن نشهد أي انتظام في تجاربنا، مما قد يؤدي إلى استنزاف مواردنا العقلية.
مراجع
Wadsworth, B. (2004). Piaget’s Theory of Cognitive and Affective Development: Foundations of Constructivism. London: Longman Publishing.
https://www.scirp.org/journal/paperinformation?paperid=102973
كتب جان بياجيه للقراءة و الاضطلاع من موقع : https://archive.org/search?query=creator%3A%22Jean+Piaget%22
أعجبتني الفكرة لأهميتها
جزاكم الله خيرا
موفقون إن شاء الله