تقلبات المزاج: تحليل للأسباب والاستراتيجيات

تقلبات المزاج

نتناول هذه المقالة ظاهرة تقلبات المزاج، محددة أسبابها المحتملة التي تشمل التوتر، والعوامل الهرمونية، والاضطرابات النفسية. كما تستعرض الحلول العملية مثل الرياضة، وتحديد الأولويات، واليقظة الذهنية، والدعم النفسي. التمييز بين التقلبات المزاجية الطبيعية وتلك المرتبطة باضطرابات نفسية أمر أساسي لتحديد العلاج المناسب.

المشاعر الإنسانية

تمثل المشاعر الإنسانية نسيجا معقدا ومتغيرا باستمرار، تشكل تجربتنا اليومية وتؤثر بشكل عميق على إدراكنا لأنفسنا والعالم من حولنا. من الطبيعي أن نشعر بموجات من المشاعر المتباينة؛ فنستيقظ صباحا ونشعر بالتفاؤل والنشوة، ثم تواجهنا تحديات أو ضغوطات تؤدي إلى تغير في حالتنا النفسية، والعكس صحيح.

هذه التقلبات، التي تنتقل بها حالتنا المزاجية بينحالات مزاجية مرتفعة و منخفظة، هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية. إنها تعكس تفاعلنا المستمر مع البيئة الخارجية من جهة، ومع عمقنا الداخلي من أفكار وذكريات وتوقعات من جهة أخرى. ومع ذلك، يبرز تساؤل مهم حول الحد الفاصل بين هذه التقلبات “الطبيعية” وتلك التي قد تشير إلى حالة تستدعي اهتماما خاصا أو حتى تدخلا متخصصا.

 هذه المقالة تهدف إلى الغوص في أعماق ظاهرة تقلبات المزاج، مستكشفا أسبابها المتعددة والمتشابكة، ومحاولا تقديم فهم أوضح لطبيعتها، ومتى قد تتحول من مجرد تغيرات عابرة إلى معضلة تؤثر على جودة الحياة. سنسلط الضوء على العوامل النفسية والبيئية والهرمونية والعضوية التي قد تساهم في حدوثها، ونستعرض الاستراتيجيات والأساليب العلمية والعملية التي يمكن أن تساعد في إدارتها والتعامل معها بفعالية، بهدف تعزيز الاستقرار النفسي والرفاهية العامة.

 إن فهم تقلبات المزاج ليس مجرد رحلة معرفية، بل هو خطوة أساسية نحو بناء وعي ذاتي أعمق، وتطوير آليات تكيف أكثر نضجا، مما يمكننا من مواجهة تقلبات الحياة بمرونة وتوازن أكبر.

تقلبات المزاج: بين الطبيعة والاضطراب

تعد تقلبات المزاج جزءا أصيلا من التجربة الإنسانية، فهي تعكس الديناميكية الطبيعية لحالاتنا العاطفية. ومع ذلك، يوجد خط فاصل دقيق بين هذه التغيرات الطبيعية والاضطرابات التي تتطلب تدخلا متخصصا. يهدف هذا المقال إلى توضيح مفهوم تقلبات المزاج، وتحديد متى تصبح مؤشرا على وجود مشكلة، واستعراض الاضطرابات النفسية المرتبطة بها.

ما هي تقلبات المزاج؟ فهم الطبيعة العاطفية للإنسان

تعرّف تقلبات المزاج (Mood Swings) بأنها تغيرات سريعة وغير متوقعة في الحالة الشعورية للفرد، حيث يتنقل بين مشاعر إيجابية مثل السعادة، وأخرى سلبية كالحزن أو الغضب خلال فترات قصيرة. هذه التغيرات هي استجابات طبيعية للمؤثرات الداخلية والخارجية، وتختلف في حدتها وتكرارها من شخص لآخر بناء على عوامل متعددة كبنية الشخصية والخبرات السابقة.

من منظور علم النفس، لا يوجد معيار ثابت يحدد عدد التغيرات المزاجية “المقبولة” يوميا. بدلا من ذلك، يتم التركيز على مفهوم “الرفاهية الذاتية” (Subjective Well-being)، الذي يقيس مدى تأثير هذه التقلبات على أداء الفرد وقدرته على ممارسة حياته اليومية.

من المهم أيضا فهم أن جميع المشاعر، حتى السلبية منها، تؤدي وظائف حيوية. فالغضب قد يكون دافعا للدفاع عن الحقوق، والحزن آلية طبيعية لمعالجة الفقد. إن تطوير “الذكاء العاطفي” يتيح لنا فهم هذه المشاعر والتعلم منها بدلا من قمعها، مما يحول تقلبات المزاج من تهديد إلى حوار بنّاء بيننا وبين بيئتنا.

متى تصبح تقلبات المزاج مشكلة؟

تتحول تقلبات المزاج الطبيعية إلى مؤشر مثير للقلق عندما تتجاوز حدا معينا في الشدة أو التأثير. وتصبح مشكلة حقيقية في الحالات التالية:

  • التطرف في المشاعر: عندما يتأرجح المزاج بين أقصى درجات النشوة (الهوس) وأعمق مستويات اليأس (الاكتئاب).
  • التأثير على الحياة اليومية: عندما تبدأ هذه التقلبات في إلحاق الضرر بالعلاقات الشخصية، الأداء المهني، أو الدراسة.
  • الشعور بالإنهاك: عندما يصبح الشخص عاجزا عن مواكبة التغيرات السريعة، ويشعر بأن التقلبات “لا تطاق” أو “مرهقة” بشكل مستمر.
  • ملاحظات المحيطين: تكرار تعليقات من الآخرين مثل “ماذا حدث لك؟” قد يعكس أن هذه التقلبات لم تعد شأنا شخصيا، بل أصبحت تؤثر على من حولك.

إن محاولة قمع المشاعر السلبية أو التظاهر بالتفاؤل القسري قد يؤدي إلى تفاقم المشكلة، لأنه يحرم الفرد من آليات التكيف الطبيعية.

الاضطرابات النفسية المرتبطة بتقلبات المزاج الشديدة

عندما تكون تقلبات المزاج حادة ومستمرة، قد تكون عرضا لاضطراب نفسي كامن. من الضروري التمييز بينها وبين الحالات المرضية لضمان التشخيص والعلاج الصحيحين.

أبرز هذه الاضطرابات:

  • الاضطراب ثنائي القطب (Bipolar Disorder): يعرف سابقا بـ “الاكتئاب الهوسي”. ويتميز بتناوب نوبات من الهوس (طاقة مفرطة وسلوكيات متهورة) ونوبات من الاكتئاب الشديد.
  • اضطراب المزاج الدوري (Cyclothymia): هو شكل أخف من الاضطراب ثنائي القطب. يتأرجح فيه المزاج بين فترات من الاكتئاب الخفيف والهوس الخفيف (Hypomania).
  • اضطراب الشخصية الحدية (Borderline Personality Disorder – BPD): يتسم بعدم استقرار عاطفي شديد وسريع. حيث تكون ردود الأفعال العاطفية مبالغا فيها وغير متناسبة مع الموقف.
  • الاكتئاب (Depression): على عكس تقلبات المزاج السريع. يتميز الاكتئاب باستمرار الحزن وفقدان الاهتمام لمدة أسبوعين على الأقل. مصحوبا بأعراض أخرى تؤثر على النوم والشهية والتركيز.

إن فهم هذه الفروقات الدقيقة بين الحالات الطبيعية والمرضية هو خطوة أساسية نحو الحصول على الدعم المناسب وتحسين جودة الحياة.

أسباب تقلبات المزاج: رحلة عبر العوامل النفسية والبيولوجية والبيئية

إن فهم الأسباب الكامنة وراء تقلبات المزاج هو مفتاح أساسي لإدارتها بفعالية. هذه الأسباب متنوعة ومعقدة، وتتفاعل فيما بينها لتشكل شبكة من المؤثرات التي تؤثر على استقرارنا العاطفي. غالبا ما يكون لدى الأفراد الذين يعانون من تقلبات مزاجية شديدة فكرة مسبقة حول المسببات المحتملة لتغيراتهم المزاجية. وقد تتمثل هذه المسببات في ضغوط الحياة اليومية، أو أحداث حياتية صادمة، أو تغيرات هرمونية.

 سنسلط الضوء في هذا المقال على بعض الأسباب الرئيسية التي تساهم في ظهور تقلبات المزاج. مع التركيز على كيفية تأثيرها على النظام العاطفي للإنسان. إن التعرف على هذه الأسباب لا يساعد فقط في فهم الذات، بل يمهد الطريق أيضا لتبني استراتيجيات وقائية وعلاجية مناسبة. إن رحلة استكشاف هذه الأسباب هي رحلة نحو وعي أعمق بالتفاعل المعقد بين أجسادنا وعقولنا والبيئة التي نعيش فيها.

الضغوط النفسية وأحداث الحياة المجهدة: تأثيرها المباشر على الاستقرار العاطفي

تعد الضغوط النفسية (Stress) وأحداث الحياة المجهدة من الأسباب الشائعة والبارزة لتقلبات المزاج. عندما يتعرض الإنسان لضغط مستمر أو لأحداث صادمة ومجهدة. فإن نظامه العصبي والهرموني يستجيب بطريقة تؤثر بشكل مباشر على حالته المزاجية. يمكن تشبيه الضغط النفسي المزمن بمحاولة اللعب بعدة كرات في الهواء في نفس الوقت. قد ينجح الإنسان في ذلك لفترة مؤقتة. ولكن كل إضافة جديدة تزيد من احتمالية فقدان التوازن وسقوط الكرات، وهو ما يعكس تدهور المزاج.

تقلبات المزاج وضغوطات الحياة اليومية

 بمجرد إدارة هذه الضغوط والعودة إلى حالة من التوازن النسبي، قد يتحسن المزاج مرة أخرى. لكن استمرار الضغط يجعل من الصعب الحفاظ على هذا الاستقرار. الضغوط اليومية، مثل أعباء العمل المفرطة، والمشاكل الأسرية، والالتزامات المالية، والمواصلات المزدحمة. يمكن أن تتراكم وتؤدي إلى استنزاف الموارد النفسية للفرد، مما يجعله أكثر عرضة للتقلبات المزاجية.

 عندما تكون هذه الضغوطات اليومية شديدة ومستمرة، فإنها تضعف قدرة الفرد على ضبط مشاعره والرد على المواقف بطريقة متوازنة. في بعض الأحيان. لا تكون الضغوطات مجرد هموم يومية، بل تكون أحداث حياتية كبرى ومجهدة تستهلك الطاقة النفسية للفرد بشكل كبير. مثل الطلاق، أو فقدان وظيفة، أو وفاة عزيز، أو الإصابة بمرض خطير. هذه الأحداث تفتقر الفرد إلى القوة الداخلية اللازمة لتنظيم مشاعره والتعامل مع المتغيرات.

 في مثل هذه الحالات. قد يشعر الفرد بأنه “بحر هائج” تتقاذفه الأمواج العاطفية بدلا من أن يكون “صخرة صامدة” في وجه العواصف. إن عدم وجود آليات تكيف سليمة للتعامل مع هذه الأحداث. أو غياب الدعم الاجتماعي الكافي، يزيد من احتمالية تحول التقلبات المزاجية إلى مشكلة مزمنة. إن التعرف على مصادر الضغط النفسي في حياتنا والعمل على إدارتها. سواء عن طريق تغيير الموقف أو تغيير طريقة تفكيرنا فيه، هو خطوة حاسمة نحو تحقيق استقرار أكبر في المزاج.

العوامل الهرمونية: الدور المحوري للكيمياء الحيوية في تنظيم المشاعر

تلعب الهرمونات دورا حاسما ووثيق الصلة بالصحة النفسية وتنظيم المزاج. التقلبات في مستويات بعض الهرمونات يمكن أن تؤدي بشكل مباشر إلى تقلبات مزاجية ملحوظة. من بين الهرمونات التي لها تأثير كبير على المزاج هرمون الإستروجين (Estrogen) والبروجسترون (Progesterone) عند النساء، والتستوستيرون (Testosterone) عند الرجال، بالإضافة إلى هرمون النمو (Somatotropin) وهرمون الكورتيزول (Cortisol) المعروف بهرمون التوتر.

أثناء الدورة الشهرية عند النساء:

 عند النساء، تعد التغيرات الهرمونية المرتبطة بالدورة الشهرية من الأسباب الشائعة لتقلبات المزاج. ففي النصف الثاني من الدورة الشهرية (الطور الأصفراني)، تنخفض مستويات هرموني الإستروجين والبروجسترون بشكل حاد قبل بدء الحيض، مما قد يؤدي إلى ظهور أعراض متلازمة ما قبل الحيض (PMS) التي تشمل التهيج، والقلق، والاكتئاب الخفيف، وتقلبات المزاج. وفي بعض الحالات الأكثر شدة، قد يصاب بعض النساء باضطراب اكتئابي ما قبل الحيضي (Premenstrual Dysphoric Disorder – PMDD)، وهو حالة نفسية أكثر خطورة تتميز بتقلبات مزاجية شديدة، وأعراض قلق، وانخفاض عام في المزاج قبل الدورة الشهرية بشكل كبير يؤثر على الحياة اليومية.

أثناء فترة الحمل:

 كذلك، فترات الحمل والنفاس وانقطاع الطمث (Menopause) تتميز بتغيرات هرمونية جذرية يمكن أن تسبب تقلبات مزاجية ملحوظة. على سبيل المثال، انخفاض مستويات الإستروجين خلال انقطاع الطمث يرتبط بظهور تقلبات المزاج، والهبات الساخنة، والأرق . أما عند الرجال، فقد تشير بعض الدراسات إلى أن العلاجات الهرمونية بالتستوستيرون وهرمون النمو قد تكون فعالة في علاج تقلبات المزاج لدى الرجال الذين يعانون من انخفاض مستويات هذه الهرمونات. ومع ذلك، يجب أن يتم أي علاج هرموني تحت إشراف طبي دقيق بسبب الآثار الجانبية المحتملة.

افراز الكورتيزول في حالات التوتر

هرمون الكورتيزول، الذي يفرز بكميات أكبر استجابة للتوتر، يمكن أن يؤثر أيضا على المزاج عندما ترتفع مستوياته بشكل مزمن. إن فهم هذه الارتباطات الهرمونية يساعد على إدراك أن بعض تقلبات المزاج قد لا تكون مجرد ردود فعل نفسية بحتة، بل قد يكون لها أساس بيولوجي واضح. هذا الفهم يمكن أن يقلل من الشعور بالذنب أو العجز الذي قد يصاحب هذه التقلبات، ويوجه نحو حلول مناسبة، مثل استشارة الطبيب لفحص الهرمونات عند الاشتباه في وجود خلل هرموني.

عوامل أخرى مؤثرة: نمط الحياة، الأدوية، والحالات الصحية

بالإضافة إلى الضغوط النفسية والعوامل الهرمونية، هناك مجموعة أخرى من العوامل التي يمكن أن تساهم في حدوث تقلبات المزاج. يلعب نمط الحياة دورا هاما؛ فقلة النوم، والتغذية غير المتوازنة، وقلة النشاط البدني، كلها عوامل يمكن أن تضعف الجسم والعقل وتجعلهما أكثر عرضة لتقلبات المزاج. فالنوم الجيد ضروري لإعادة توازن المواد الكيميائية في الدماغ التي تنظم المزاج، ونقصه يمكن أن يؤدي إلى التهيج والقلق. وبالمثل، فإن بعض الأطعمة والمشروبات، مثل الكافيين بكميات كبيرة والكحول، يمكن أن تؤثر على استقرار المزاج. بعض الأدوية قد يكون لها آثار جانبية تشمل تقلبات المزاج كأحد أعراضها.

 من الأمثلة على ذلك وسائل منع الحمل الهرمونية، والعلاج الهرموني البديل، والمنشطات الابتنائية (Anabolic steroids)، والكورتيكوستيرويدات (Corticosteroids)، وبعض مضادات الاكتئاب. من المهم دائما قراءة النشرة الداخلية للدواء والتحدث مع الطبيب أو الصيدلي حول أي آثار جانبية محتملة. كما أن بعض الحالات الصحية الأخرى غير المتعلقة بالهرمونات يمكن أن تسبب تقلبات مزاجية، مثل أمراض الغدة الدرقية (فرط أو قصور نشاط الغدة الدرقية)، والتي تؤثر بشكل مباشر على عملية الأيض ويمكن أن تؤدي إلى أعراض تشمل الاكتئاب والقلق وتقلبات المزاج .

 الأمراض المزمنة التي تسبب ألما مستمرا أو إعاقة يمكن أن تؤثر أيضا على المزاج بسبب العبء النفسي والجسدي الذي تفرضها. إن النظر إلى هذه العوامل المتعددة بشكل شامل يساعد في تشكيل صورة أكثر دقة حول الأسباب المحتملة لتقلبات المزاج لدى الفرد، وبالتالي إمكانية وضع خطة علاجية أو وقائية أكثر فعالية.

استراتيجيات التعامل مع تقلبات المزاج: من التدابير الذاتية إلى الدعم المتخصص

إن التعامل مع تقلبات المزاج بشكل فعال يتطلب نهجا متعدد الأوجه، يجمع بين التدابير الذاتية التي يمكن للفرد تطبيقها في حياته اليومية، وبين الاستعانة بالدعم النفسي والعلاجي الطبي عند الحاجة. لا توجد حلول واحدة تناسب الجميع، ولكن هناك مجموعة من الاستراتيجيات التي أثبتت فعاليتها في مساعدة الأفراد على تحسين توازنهم العاطفي والحد من حدة تقلبات مزاجهم. إن اختيار الاستراتيجية المناسبة يعتمد على شدة التقلبات المزاجية، وأسبابها الكامنة، وحالة الفرد العامة.

سنستعرض أربعة تدابير رئيسية يمكن أن تكون مفيدة في إدارة تقلبات المزاج، مع التركيز على كيفية تطبيقها والفوائد المحتملة منها. إن تبني هذه الاستراتيجيات لا يعني القضاء التام على تقلبات المزاج، بل تطوير القدرة على التعامل معها بوعي ومرونة أكبر، مما يعزز الشعور بالسيطرة والاستقرار الداخلي.

النشاط البدني: تأثيره الإيجابي على الصحة النفسية واستقرار المزاج

أثبتت العديد من الدراسات العلمية بشكل قاطع أن ممارسة الرياضة بانتظام لها آثار إيجابية كبيرة على الصحة النفسية والعاطفية، بما في ذلك تقليل تقلبات المزاج. يعتبر النشاط البدني أداة قوية لمكافحة التوتر والقلق والاكتئاب، ويساهم بشكل فعال في تحسين المزاج العام. تعمل التمارين الرياضية على تحفيز إفراز مواد كيميائية في الدماغ تعرف بالإندورفينات (Endorphins)، والتي تعمل كمسكنات طبيعية للألم ومحسنات للمزاج.

 كما أنها تساعد على زيادة مستويات النواقل العصبية الأخرى مثل السيروتونين (Serotonin) والدوبامين (Dopamine)، والتي تلعب دورا حاسما في تنظيم المزاج والشعور بالسعادة والرضا . وجدت إحدى الدراسات أن ممارسة الركض بانتظام يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي على تقلبات المزاج .

كما أن أنواعا أخرى من التمارين مثل اليوغا، والتي تجمع بين الجانب البدني والجانب التأملي والتنفسي، أظهرت فعاليتها في تخفيف حدة التوتر وتحسين الاستقرار العاطفي. لا تقتصر فوائد الرياضة على التأثير الكيميائي المباشر على الدماغ، بل تمتد لتشمل تحسين صورة الذات، وزيادة الشعور بالإنجاز، وتوفير وسيلة صحية للتنفيس عن المشاعر المكبوتة.

 من المهم التأكيد على أن التحسن في المزاج لا يحدث عادة بعد جلسة تمرين واحدة، بل يتطلب المثابرة والانتظام في ممارسة الرياضة لفترة كافية لملاحظة التأثيرات الإيجابية المستدامة. يمكن البدء بأنشطة بسيطة وممتعة وزيادة الشدة والمدة تدريجيا. إن إدماج النشاط البدني في الروتين اليومي، حتى لو كان المشي السريع لمدة 30 دقيقة معظم أيام الأسبوع، يمكن أن يحدث فرقا كبيرا في الصحة النفسية والاستقرار المزاجي على المدى الطويل .

إدارة الأولويات: تخفيف العبء النفسي لتحقيق التوازن العاطفي

في عالم سريع الخطى ومليء بالمطالب والالتزامات، غالبا ما يجد الأفراد أنفسهم يلهثون وراء إنجاز العديد من المهام في آن واحد، مما يؤدي إلى الشعور بالإرهاق الشديد وارتفاع مستويات التوتر، وبالتالي زيادة احتمالية حدوث تقلبات مزاجية. إن تعلم فن إدارة الأولويات (Prioritization) هو استراتيجية فعالة للتخفيف من هذا العبء النفسي واستعادة شعور أكبر بالسيطرة والهدوء.

 عندما يحاول الفرد القيام بخمس مهام معقدة في نفس الوقت، فإنه يوزع طاقته وموارده النفسية بشكل رقيق، مما يجعله عرضة للانهيار أمام أي ضغط إضافي. إعادة ترتيب الأولويات والتركيز على المهام الأهم والأكثر إلحاحا، وتأجيل أو تفويض المهام الأقل أهمية، يمكن أن يوفر مساحة نفسية ضرورية للراحة والتفكير بوضوح. يساعد هذا النهج على تقليل الشعور بالغرق في المهام، ويعطي الفرد شعورا بالإنجاز عند إتمامه للمهام الأساسية، مما يعزز ثقته بنفسه ويستقر مزاجه.

 يمكن أن تكون الأسئلة الثلاثة البسيطة التالية مفيدة في عملية تحديد الأولويات: “هل يجب علي فعله؟”، “هل يجب علي فعله أنا تحديدا؟”، و”هل يجب علي فعله الآن؟”. الإجابة الصادقة على هذه الأسئلة يمكن أن تساعد في تصفية المهام والتركيز على ما هو حقيقي. إن إدراك أن الوقت ليس العامل الوحيد المطلوب، بل القدرة العقلية والطاقة النفسية أيضا ضرورية لمعالجة المشاعر والمحافظة على توازنها، هو أمر في غاية الأهمية.

 توفير فترات راحة قصيرة خلال اليوم، وتعلم قول “لا” للمهام أو الالتزامات الزائدة عن الحاجة، وتقسيم المهام الكبيرة إلى خطوات أصغر وأكثر قابلية للإدارة، كلها تقنيات تساهم في إدارة الأولويات بفعالية. إن تحقيق التوازن بين العمل والراحة، وبين الواجبات والاهتمامات الشخصية، هو مفتاح للحفاظ على استقرار المزاج والصحة النفسية.

اليقظة الذهنية (Mindfulness): تنمية الوعي الحاضر لتهدئة عواصف المشاعر

تعتبر اليقظة الذهنية (Mindfulness)، أو الوعي الكامل باللحظة الراهنة دون إصدار أحكام، إحدى الأدوات الفعالة جدا في التعامل مع تقلبات المزاج. يمكن تشبيه الحالة المزاجية المتقلبة بعلم يرفرف في الريح، يتغير اتجاهه باستمرار وتتقاذفه العواصف. أما الوعي الذهني، فهو يشبه سارية العلم الحديدية الصلبة والثابتة؛ فهو لا يمنع الريح من الهبوب، ولكنه يوفر نقطة ارتكاز واستقرار.

 من خلال ممارسة اليقظة الذهنية، يمكن للفرد أن يطور مع مرور الوقت شعورا أكبر بالاستقرار الداخلي رغم تقلبات المزاج الخارجية. لا يهدف هذا النهج إلى تغيير تقلبات المزاج نفسها بشكل مباشر، بل إلى تغيير علاقة الفرد بها وتعزيز قبوله لها. تتضمن ممارسة اليقظة الذهنية التركيز الانتباهي الواعي على ما يحدث في اللحظة الحالية، سواء كان ذلك الأفكار التي تمر بالعقل، أو المشاعر التي تثار، أو الأحاسيس الجسدية، أو الأصوات من حولنا، دون محاولة قمعها أو الحكم عليها بأنها “جيدة” أو “سيئة”.

 على سبيل المثال، يمكن للفرد ممارسة التركيز على تنفسه، ملاحظا حركة الهواء داخل وخارج جسمه دون محاولة تغييره. عندما تظهر أفكار أو مشاعر مزعجة، يمكن ملاحظتها بهدوء وإعطائها مساحة ثم إعادة التركيز بلطف على التنفس. أظهرت الأبحاث أن ممارسة اليقظة الذهنية يمكن أن تساعد في تحسين التنظيم العاطفي عن طريق تعزيز نشاط مناطق في الدماغ مرتبطة بالانتباه والتحكم في الانفعالات، مثل القشرة أمام الجبهية (Prefrontal Cortex)، مع تقليل نشطة اللوزة (Amygdala) المرتبطة بالاستجابة للخوف والتهديد . كما أن العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية (Mindfulness-Based Cognitive Therapy – MBCT) أثبت فعاليته في منع انتكاسات الاكتئاب . إن ملاحظة تقلبات المزاج بوعي وقبول يمكن أن تقلل من المعاناة المرتبطة بها، وتمنح الفرد مساحة لاختيار رد فعله بدلا من الاستجابة الانفعالية المباشرة.

الدعم النفسي والعلاجي الطبي: متى وكيف نطلب المساعدة المتخصصة

رغم أن التدابير الذاتية مثل الرياضة وإدارة الأولويات واليقظة الذهنية يمكن أن تكون فعالة جدا في التعامل مع تقلبات المزاج الخفيفة إلى المتوسطة. إلا أن هناك حالات يصبح فيها طلب الدعم النفسي والعلاجي الطبي أمرا ضروريا وحاسما. ينصح باللجوء إلى متخصصين في الصحة النفسية، مثل الأطباء النفسيين أو المعالجين النفسيين. خاصة عندما تكون تقلبات المزاج شديدة للغاية. أو مستمرة لفترة طويلة، أو تؤثر بشكل كبير على القدرة على العمل أو الدراسة أو  العلاقات الاجتماعية.

 كذلك، إذا كانت التقلبات المزاجية مصحوبة بأفكار انتحارية. أو سلوكيات مدمرة للذات، أو أعراض ذهانية (كالهلوسة أو الأوهام)، فإن العلاج الفوري يكون إلزاميا. حتى إذا كانت محاولات العلاج الذاتي لم تجد نفعا في تخفيف حدة التقلبات المزاجية. فإن طلب المساعدة المتخصصة هو الخطوة المنطقية التالية. يمكن للطبيب النفسي أن يقوم بتقييم شامل للحالة النفسية والجسدية. واستبعاد أي أسباب عضوية أو هرمونية قد تكون مساهمة في المشكلة.

 كما يمكنه تشخيص أي اضطرابات نفسية كامنة مثل الاكتئاب أو اضطراب ثنائي القطب أو اضطراب الشخصية الحدية. والتي تتطلب علاجا محددا. قد يشمل العلاج العلاج النفسي (Psychotherapy)، مثل العلاج السلوكي المعرفي (Cognitive Behavioral Therapy – CBT) الذي يساعد على تغيير أنماط التفكير والسلوكيات السلبية. أو العلاج الديناميكي النفسي الذي يستكشف الصراعات الداخلية والتجارب الماضية.

في بعض الحالات، قد يصف الطبيب النفسي أدوية مضادة للاكتئاب أو مثبتات للمزاج (Mood Stabilizers). خاصة عند تشخيص اضطرابات مثل الاكتئاب الشديد أو ثنائي القطب. إن طلب المساعدة ليس علامة ضعف، بل هو دليل على القوة والوعي بأهمية الصحة النفسية. يمكن العثور على معلومات حول كيفية إيجاد طبيب أو معالج نفسي من خلال الاستفسار لدى الطبيب العام. أو البحث في المواقع الموثوقة لجمعيات الصحة النفسية المحلية.

تقلبات المزاج كفرصة للنمو الذاتي وتعزيز الصحة النفسية

على الرغم من أن تقلبات المزاج غالبا ما تنظر إليها على أنها تجربة سلبية ومزعجة، إلا أنها يمكن أن تشكل فرصة قيمة للتركيز على الصحة النفسية وتعزيز النمو الذاتي. تماما كما أن الألم الجسدي في جزء معين من الجسم، مثل ألم في الإصبع الكبير للقدم. هو إشارة تدفعنا إلى فحصه والبحث عن سببه وعلاجه، فإن الانزعاج النفسي الناتج عن تقلبات المزاج يمكن أن يكون بمثابة جرس إنذار يدعونا إلى الاستماع إلى أنفسنا بعمق أكبر.

 عندما نشعر بعدم الراحة النفسية، يمكننا أن نتوقف ونسأل أنفسنا: “كيف أشعر الآن؟” و”ما الذي قد يكون السبب المحتمل لهذه المشاعر؟” و”ما الذي يمكنني تغييره لأشعر بتحسن؟”. إن هذه الممارسة من التأمل الذاتي والاستقصاء الداخلي يمكن أن تؤدي إلى فهم أعمق لنقاط قوتنا وضعفنا، وللمحفزات التي تثير استجاباتنا العاطفية. من خلال هذه العملية. لا تقتصر تقلبات المزاج على كونها مجرد ظاهرة مزعجة، بل تتحول إلى فرصة للعناية بالنفس بشكل استباقي ومتعمد.

 يمكن أن تكون هذه التجارب العاطفية الصعبة بمثابة محفز لتبني عادات حياة أكثر صحة، مثل ممارسة الرياضة بانتظام، وتحسين النظام الغذائي. وتعلم تقنيات إدارة التوتر واليقظة الذهنية. كما أنها قد تدفعنا إلى إعادة تقييم علاقاتنا وأولوياتنا في الحياة، وإجراء التغييرات اللازمة لتحقيق توازن أكبر.

إن النظر إلى تقلبات المزاج من هذه الزاوية الإيجابية لا يعني تجاهل المعاناة التي قد تسببها، بل يعني محاولة استخلاص أقصى استفادة ممكنة من هذه التجارب لبناء شخصية أقوى وأكثر وعيا ومرونة. إنها دعوة لتحويل التحديات إلى فرص للتعلم والنمو. مما يؤدي في النهاية إلى تحسين الصحة النفسية والرفاهية العامة على المدى الطويل.

خاتمة: نحو فهم أعمق وتوازن نفسي أكبر

في ختام هذا الاستقصاء الشامل لتقلبات المزاج، يتضح أن هذه الظاهرة المعقدة هي جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية الغنية والمتنوعة. إنها ليست مجرد تغيرات عابرة في المشاعر، بل هي انعكاس ديناميكي لتفاعل أجسادنا وعقولنا مع البيئة المحيطة بنا. لقد رأينا كيف أن التقلبات المزاجية يمكن أن تكون طبيعية ومفيدة في بعض السياقات، حيث تساعدنا على التكيف والاستجابة للمتغيرات.

 ومع ذلك، عندما تصبح هذه التقلبات شديدة ومتكررة، وتؤثر سلبا على جودة حياتنا وعلاقاتنا وقدرتنا على العمل، فإنها قد تشير إلى وجود أسباب أعمق تتطلب اهتماما وفهما. لقد استعرضنا الأسباب المتعددة التي تقف وراء تقلبات المزاج. بدءا من الضغوط النفسية وأحداث الحياة المجهدة، مرورا بالعوامل الهرمونية والبيولوجية التي تلعب دورا محوريا في تنظيم مشاعرنا. ووصولا إلى أنماط الحياة وبعض الحالات الصحية والأدوية.

 إن فهم هذه الأسباب هو الخطوة الأولى نحو التعامل بفعالية مع تقلبات المزاج. كما قدمنا مجموعة من الاستراتيجيات العملية التي يمكن أن تساعد في إدارة هذه التقلبات. بدءا من تعزيز النشاط البدني وتنظيم الأولويات، وتنمية اليقظة الذهنية، وصولا إلى طلب الدعم النفسي والعلاجي الطبي عند الضرورة. إن كل هذه الأدوات تهدف إلى تمكين الفرد من فهم مشاعره بشكل أفضل، وتطوير آليات تكيف أكثر صحة ومرونة. 

وأخيرا، أردنا أن نؤكد على أن تقلبات المزاج، حتى تلك التي تبدو مزعجة. يمكن أن تكون فرصة للنمو الذاتي وتعزيز الصحة النفسية إذا ما تعاملنا معها بوعي وإيجابية. إنها تدعونا إلى الاستماع إلى أنفسنا بعمق، وإعادة تقييم حياتنا، واتخاذ خطوات نحو تحقيق توازن أكبر. إن الرحلة نحو الاستقرار النفسي هي رحلة مستمرة تتطلب صبرا وعزيمة، ولكنها تؤدي في النهاية إلى حياة أكثر غنى ومعنى.’

المراجع

Mental vs. hormonal mood changes: How to tell them apart. https://www.medicalnewstoday.com/articles/changes-in-mood-mental-or-hormonal. Oct 27, 2023

Mood Swings: What They Are & Causes. https://my.clevelandclinic.org/health/symptoms/mood-swings

The Hormonal Rollercoaster: Understanding Mood Swings. https://www.elitegyn.com/post/the-hormonal-rollercoaster-understanding-mood-swings

Mindfulness and mood disorders in the brain. https://www.apa.org/monitor/2015/03/mindfulness-mood

More evidence that exercise can boost mood. https://www.health.harvard.edu/mind-and-mood/more-evidence-that-exercise-can-boost-mood

The exercise effect. https://www.apa.org/monitor/2011/12/exercise

Effect of exercise for depression: systematic review and. https://www.bmj.com/content/384/bmj-2023-075847

The Mindful Brain and Emotion Regulation in Mood. https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC3303604

اترك تعليقاً