القائمة

اضطراب الشخصية التجنبية

شارك المقال

اضطراب الشخصية التجنبية هو أحد اضطرابات الشخصية التي تنتمي إلى المجموعة الثالثة (ج) من التصنيف النفسي. يتميز هذا الاضطراب بالخوف المفرط من النقد والرفض، مما يدفع المصابين به إلى الانعزال عن الآخرين وتجنب التفاعلات الاجتماعية. يعاني هؤلاء الأشخاص من تدني احترام الذات، ويعيشون في حالة من القلق الدائم تجاه مواقف الحياة اليومية، مما يؤثر بشكل كبير على علاقاتهم وحياتهم المهنية والاجتماعية. في هذا المقال، سنستعرض تعريف اضطراب الشخصية التجنبية، أسبابه، الأعراض المصاحبة له، وكيفية التعامل معه بفعالية.

تعريف اضطراب الشخصية التجنبية:

اضطراب الشخصية التجنبية avoidant personality disorder ينتمي إلى المجموعة الثالثة (ج) من اضطرابات الشخصية. يتميز بنمط عام من القلق والمخاوف التي ترتبط بموضوع محدد، والذي يسمى “موضوع الخوف” (Objet phobogène). تؤثر هذه المخاوف سلبا على الشخص، فتجعله ينسحب اجتماعيا، ويعجز عن إقامة علاقات اجتماعية مشبعة، وتجعله سلبيا وكامنا، فاقدا للجرأة والاقدام، خائفا من ردة فعل الآخرين من حوله. يتجنب الشخص أي عمل يتطلب التواصل الاجتماعي بسبب الخوف من انتقاد الآخرين أو رفضهم. ويتجنب أي ارتباط مع أشخاص آخرين ما لم يكن من المؤكد أنه سيحظى بإعجابهم.

يعتبر اضطراب الشخصية التجنبية أحد الاضطرابات التى تعكس اضطراب علاقة الفرد بمن حوله، واضطراب في الحيّز الشخصي من خلال اضطراب المسافة الشخصية التي يختارها الفرد للتفاعل مع الآخرين.

تعطى لهذا الاضطراب عدة تسميات: الشخصية الرهابية، الشخصية القلقة-الرهابية (anxiophobique)، الشخصية الانطوائية.

الاحصائيات الوبائية:

أشارت إحصائيات الدليل التشخيصي والاحصائي للاضطرابات العقلية في نسخته الرابعة (DSM 4)، إلى أن اضطراب الشخصية التجنّبيّة يمس بين (2 إلى 5٪)، ويصيب الجنسين بنفس النسبة تقريبا. في حين أشارت احصائيات (DSM 5) إلى أن معدل انتشار اضطراب الشخصية التجنبية يبلغ بين (1- 2.1 %). يؤثر هذا الاضطراب على الإناث أكثر من الذكور بنسبة صغيرة جدا.

الأمراض المصاحبة لاضطراب الشخصية التجنبية:

يعاني المصابون باضطراب الشخصية التجنبية غالبا من اضطراب الاكتئاب المستمر أو اضطراب الوسواس القهري، أو اضطراب القلق لاسياما نوبات الهلع والرهاب الاجتماعي، وهو ما يسبب إعاقة كبيرة في الأداء العام. كما يمكن أن يتم تشخيصهم أيضا باضطراب الشخصية التابعة، أو اضطراب الشخصية الحدية.

معايير تشخيص اضطراب الشخصية التجنبية (DSM 5):

أ) تغيير على الأقل في متوسط ​​شدة أداء الشخصية كما يتضح من الصعوبات المميزة في اثنين على الأقل من الأربعة مجالات التالية:

1. الهوية: تدني احترام الذات حيث ينظر الشخص إلى نفسه على أنه غير كفؤ اجتماعيا، أو غير جذاب، أو أقل شأنا؛ مع مشاعر الخجل المفرطة.

2. محدودوية في القدرات: معايير سلوكية غير واقعية مع الإحجام عن متابعة الأهداف، أو تحمل المخاطر الشخصية، أو الانخراط في أنشطة جديدة تنطوي على الاتصال بين الأشخاص.

3. التعاطف: القلق بشأن (والحساسية تجاه) النقد أو الرفض المرتبط بالاستدلالات المتحيزة أو السلبية حول توقعات الآخرين.

4. الخصوصية: عدم الرغبة في التعامل مع الآخرين إلا إذا كان متأكدا أنه محبوب؛ وانخفاض في العلاقات المقربة بسبب الخوف من التعرض للسخرية.

ب) ما لا يقل عن ثلاث من الصفات المرضية الأربع التالية، ويجب أن تكون إحداها: النزعة للقلق:

1. النزعة للقلق (أحد جوانب العاطفة السلبية): مشاعر شديدة من العصبية والتوتر والذعر، وغالبا ما تكون استجابة للمواقف الاجتماعية. مع القلق بشأن الآثار السلبية لتجارب الماضي المؤلمة والاحتمالات السلبية للمستقبل؛ يواجه الشخص مشاعر الخوف، أو يشعر بالتهديد بسبب عدم اليقين؛ والخوف من الشعور بالحرج.

2. الانسحاب. الإحجام عن العلاقات الاجتماعية. تجنب الأنشطة الاجتماعية والاتصالات. عدم وجود مبادرة التواصل الاجتماعي.

3. انعدام المتعة. الافتقار إلى المتعة أو المشاركة أو الطاقة في تجارب الحياة، ونقص القدرة على الشعور بالمتعة أو الاهتمام بالأشياء.

4. تجنب العلاقة المقربة. تجنب العلاقات الوثيقة والرومانسية، والارتباطات الشخصية، والعلاقات الجنسية.

اذن، لتشخيص هذا الاضطراب يجب توفر عرضين أساسيين هما:

أولا، الخوف من الرفض. وهو ما يجعل الشخص يتجنّب التفاعلَ الاجتماعي في مختلف المواقف. ويميل إلى المبالغة في تقدير الأخطار، ويفضِّل نمطا محدودا لأسلوب الحياة بسبب حاجته إلى الأمن واليقين.

ثانيا، التحسّس الشديد تجاه النقد. والانتباه الشديد لأي علامة دالة على استجابة سلبية اتجاههم.

أوجه التشابه والاختلاف بين اضطراب الشخصية التجنبية واضطراب القلق الاجتماعي:

يشترك اضطراب الشخصية التجنبية واضطراب القلق الاجتماعي في الكثير من الأعراض، لا سياما الخوف الشديد من النقد والرفض في المواقف الاجتماعية. وهو ما يؤدي في كلا الاضطرابين إلى كف اجتماعي كبير وعدم الراحة في المواقف الاجتماعية.

يتجنب المصاب باضطراب الشخصية التجنبية التفاعلات الاجتماعية بسبب الخوف من الإحراج والرفض. وقد تظهر نوبات الهلع (القلق).

يحدث اضطراب القلق/الرهاب الاجتماعي عندما يتولد خوف شديد ومستمر من الانتقاد ومراقبة الآخرين؛ مما يدفع المريض إلى تجنب المواقف الاجتماعية . في حين يتجنب المصاب باضطراب الشخصية التجنبية المواقف الاجتماعية والعلاقات؛ بسبب تدني احترامه لذاته

ميزات الطبع في اضطراب الشخصية التجنبية :

يتميز طفل الشخصية التجنبية بالخوف والخجل، مع نزعة لتجنب الصراعات أو الهروب؛ مما يجعله يحاول جاهدا عدم الظهور (لا يكون مرئيا). وبالتالي ينسحب من جماعة الرفاق ويتجنب الزملاء في المدرسة. يستمر هذا الطبع في الطفولة الثانية وفي المراهقة، وصولا الى سن الرشد.

يخاف الراشد بالشخصية التجنبية من الخطأ؛ مما يؤدي به الى الميل إلى الانسحاب المتكرر من الحياة الاجتماعية. هو شخص خجول وتقديره لذاته ضعيف، متعب دائما مع ضعف عام في الطاقة.

يتمتع بطموح قليل جدا، ولا يبادر في أي شيء لكيلا يظهر في الواجهة؛ وهو ما يفسح للآخرين المجال للسيطرة عليه، ويوّلد لديه نزعة للكمون والسلبية.

يسيطر الكف على الحياة الجنسية، والتي تعوض بممارسة العادة السرية، وهو ما يولد الكثير من مشاعر الذنب.

يكون القلق في الشخصية التجنبية متفاوت الشدة، لكنه لا يتخذ شكلا مدمرا، ويظهر في شكل قلق مزمن مع عجز عن الثبات وصعوبة في الانتباه، وتوتّر في العضلات، أو جسدنة كالتعرق، جفاف الفم، مشاكل القلب والجهاز التنفسي.

ترتبط نوبات القلق الحادة لدى الشخصية التجنبية بحادث، أو وضعية، أو موضوع محدد، يشعر فيها الشخص بالخوف الشديد المرتبط بفكرة حدوث كارثة وشيكة. ويحدث ذلك فراغا داخليا، وعدم القدرة على التفكير في أي شيء.

استراتيجيات مواجهة المخاوف في اضطراب الشخصية التجنبية:

تستعمل الشخصية التجنبية وسيلتين أساسيتين لمواجهة المواقف المخيفة:

أولا، استرتيجية إعادة التأمين. تحدث بمجرد تواجد شخص آخر باستمرار، أو التواجد قرب مأوى (منزل، محل، طبيب).

ثانيا، استراتيجية العقلانية. هي نظام فكري لتفسير أن الخوف مبرر وأن التجنب طبيعي. تقلل هذه الاستراتيجية من الاستجابات التجنبية.

الدفاعات النفسية الأساسية في اضطراب الشخصية التجنبية :

الشخصية التجنبيية و الدفاعات النفسية

تستعمل الشخصية التجنبية نظام دفاعي مزدوج:

أولا، ميكانيزم الكبت والإلغاء. يكون لهاتين الآليتين تأثير كبير على المخاوف، وفي المقابل تؤدي إلى إختفاء الإشباع الغريزي في نفس الوقت.

ثانيا. آلية الإنقال التي تستعمل على الرغبات الشبقية اتجاه الأبوين (الخوف من الخصاء، الخوف من اختراق قانون الأوديب). وأمام أي عامل محفّز يتم تحويل التصورات الشبقية أو العدوانية أو كليهما على مرجع ملموس، يمثل مسند رهابي (شيء، حيوان، وضعية…). يحمل هذا المسند ميزات لها علاقة بالبنية الاستهامية للمريض.

سببية الاضطراب :

تشير الدراسات في هذا السياق الى وجود سوابق تجارب وخبرات للرفض والتهميش خلال مرحلة الطفولة المبكرة. يكون القلق لدى طفل الشخصية التجنبية شائعا، ويظهر في سن الأربع سنوات تقريبا، من خلال نوبات قلق حادة تقترن بالتعبير الجسدي غالبا، كالإحساس بضيق التنفس، واضطرابات في الجهاز الهضمي، وبعض المخاوف كالخوف من الظلام أو من المواضيع المجهولة، أو من الأطفال الآخرين، رعب ليلي متكرر مع كوابيس تخلق اضطرابات في النوم، وأرق متكرر أو تبول ليلي لا ارادي. تتطور هذه المخاوف فيما بعد الى مخاوف دائمة من الحيوانات الكبيرة، أو من المدرسة. مع سن العاشرة يبدأ القلق في الاختفاء، أو التناقص، ليعاود الظهور في مرحلة المراهقة أو في سن الرشد. هذا الأمر ليس نظاميا لدى كل الحالات؛ بحيث قد نجد لدى بعض الحالات الأخرى استمرار القلق منذ مراحل الطفولة الأولى.

يعمل الاستعداد الجيني تتمثل في قلق خلقي من المواقف الاجتماعية.

العامل البيئي يساهم بدوره في ظهور هذا الاضطراب؛ بحيث يكون الشخص قد واجه الرفض والتهميش أثناء الطفولة. وعائلة طفل الشخصية التجنبية عائلة مستقرة ومنظمة بنوع من اللإفراط؛ بحيث تحرص على حماية الطفل من الاستقلالية أو من مواجهة تحديات وصعاب الحياة البسيطة.

ترى المقاربة النفسية التحليلية أن الحادثة التأسيسية الأولى للشخصية التجنبية تستدعي نزعة غريزية يتم قمعها على الفور، ولكنها تؤدي في هذه العملية إلى اندلاع موجة من القلق. هذه الحادثة الأولى تتعلق غالبا بالصراع الأوديبي في المرحلة القضيبية. تكون هذه النزعة مختلطة (ليبيدية وعدوانية). وتجنب الموضوع (الرهابي) يجعل من الممكن تجنب أي ظهور غريزي جديد. كما يساهم الأنا الأعلى والأنا في الحفاظ على المخاوف، لتجنب ارتفاع مؤشر القلق البنيوي ذو المنشأ الليبيدي.

علاج اضطراب الشخصية التجنبية:

غالبا ما يتجنب المصابون باضطراب الشخصية التجنبية طلب العلاج، بسبب سيطرة المخاوف عليهم. وتشمل العلاجات الفعالة لاضطراب الشخصية التجنبية ما يلي:

العلاج النفسي:

  • العلاج السلوكي المعرفي الذي يركز على تعليم المريض المهارات الاجتماعية المناسبة، والتعامل مع نوبات القلق الحادة. ويكون أكثر فعالية في شكل علاج جماعي.
  • العلاج ذو المنحى التحليلي الذي يوجه إلى علاج الصراعات النفسية ذات الطبيعة الأوديبية، والتي تعتبر سببا في ظهور المخاوف الحالية.

العلاج الدوائي:

  • تستعمل أحيانا مضادات القلق ومضادات الاكتئاب مثبِّطات استرداد السِّيروتونين الانتقائية والبنزوديازيبينات اذا كان مستوى القلق مرتفعا جدا، حتى نترك وقتا للتفاعل مع العلاج النفسي.

تطور اضطراب الشخصية التجنبية:

  • نزعة عامة للقلق والحصر النفسي؛
  • نوبات اكتئاب؛
  • أحيانا نزعة نحو توهم المرض (tendances hypochondriaques)، نتيجة البحث عن الأدوية، أو الحماية المفرطة للمحيط.

خاتمة:

يمثل اضطراب الشخصية التجنبية تحديا كبيرا لمن يعانون منه بسبب تأثيره العميق على الحياة الاجتماعية والنفسية. ومع ذلك، فإن التشخيص المبكر والعلاج المناسب يمكن أن يغير مجرى حياة المصابين به، حيث يساعدهم على التغلب على مخاوفهم واستعادة ثقتهم بأنفسهم. إن تسليط الضوء على هذا الاضطراب يساهم في تعزيز الوعي المجتمعي وتشجيع المصابين على البحث عن الدعم النفسي. بمزيد من الفهم والتعاطف، يمكننا أن نخلق بيئة داعمة تسهم في تحسين حياة هؤلاء الأفراد ومساعدتهم على تحقيق حياة أكثر إشباعا وسعادة.

قائمة المراجع

– DSM 5

Grant BF, Hasin DS, Stinson FS, et al: Prevalence, correlates, and disability of personality disorders in the United States: Results from the national epidemiologic survey on alcohol and related conditions. J Clin Psychiatry 65: 948-958, 2004. doi: 10.4088/jcp.v65n0711

– Morgan TA, Zimmerman M: Epidemiology of personality disorders. In Handbook of Personality Disorders: Theory, Research, and Treatment. 2nd ed, edited by WJ Livesley, R Larstone, New York, NY: The Guilford Press, 2018, pp. 173-196.

– Rees CS, Pritchard R. Brief cognitive therapy for avoidant personality disorder. Psychotherapy (Chic). 2015 Mar;52(1):45-55.

Weinbrecht A, Schulze L, Boettcher J, et al: Avoidant personality disorder: A current review. Curr Psychiatry Rep 18(3):29, 2016. doi: 10.1007/s11920-016-0665-6

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *