القائمة

اضطراب الشخصية الحدية

شارك المقال

في عالم يعجّ بالتحديات النفسية، يبرز اضطراب الشخصية الحدية كواحد من أكثر الاضطرابات تعقيدا وتأثيرا على الحياة اليومية للأفراد. إنه اضطراب يمزج بين العاطفة المفرطة، الخوف العميق من الهجر، والتقلبات الحادة في العلاقات. ليس مجرد حالة عابرة، بل هو معركة يومية تخوضها النفس مع ذاتها ومع العالم الخارجي.

الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدية يعيشون في حالة دائمة من التذبذب العاطفي الحاد. قد يشعرون في لحظة بالحب العميق وفي اللحظة التالية يتحول هذا الحب إلى غضب أو شعور بالرفض. يرافق هذا الاضطراب نمط من السلوكيات الاندفاعية والخطرة التي تؤثر على القرارات، العلاقات، وحتى جودة الحياة ككل.

تعربف اضطراب الشخصية الحدية:

يتم تصنيف هذا الاضطراب ضمن المجموعة (ب) من اضطرابات الشخصية المسماة الشخصيات المنفتحة، والتي تتضمن سلوكيات درامية وغير منتظمة. يغلب على هذه الشخصية تقلبات المزاج الحادة، وعدم استقرار العلاقات وصعوبة التحكم في العواطف.

اضطراب الشخصية الحدية  (البينية) هو حالة صحية عقلية. تتميز بنمط عام من عدم الاستقرار في العلاقات الشخصية (العلاقات مع الآخرين)، وفي صورة الذات وفي الانفعال، مع الاندفاعية الواضحة. يرافق الاضطراب خطر الانتحار وخطر سلوكيات التدمير الذاتي.

تبدأ هذه السمات في الظهور منذ سن البلوغ وتستمر مع الشخص، وتظهر (السمات) في العديد من السياقات المختلفة.

يواجه الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية الحدية خوفا شديدا من الهجر والإهمال؛ مما يسبّب لهم صعوبة في تنظيم مشاعرهم وانفعالاتهم، خاصة انفعال الغضب الذي يرافقه أحيانا سلوكيات هيجان وانفجار وعدوانية. يميلون إلى السلوكيات المتهورة والخطيرة بسبب عدم التفكير في العواقب، و/أو سيطرة النزعة للتدمير الذاتي.

لا يدرك العديد من الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية الحدية معاناتهم من هذا الاضطراب، ويعتقدون أن سلوكياتهم سوية، وأن الآخرين عاجزين عن فهمهم.

الاحصائيات الوبائية:

يقدر الدليل التشخيصي والاحصائي في نسخته الخامسة (DSM 5) متوسط ​​انتشار الشخصية الحدية بين سكان الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة تتراوح بين (1.6% – 5.9%). ويبلغ معدل انتشارها حوالي (6%) في أماكن الرعاية الأولية. وحوالي (10%) بين الأفراد الذين يتم فحصهم في استشارات الطب النفسي. وحوالي (20%) بين المرضى الذين يدخلون المستشفى في أجنحة الطب النفسي. كما يقل معدل انتشار هذا الاضطراب بين الفئات العمرية الأكبر سنا.

غالبا ما يتم تشخيص اضطراب الشخصية الحدية بين النساء (في حوالي 75٪ من الحالات).

معايير تشخيص اضطراب الشخصية الحدية وفقا لـ (DSM5):

للتشخيص الايجابي يجب أن تظهر خمسة أعراض أو أكثر مما يلي:

1. جهود كبيرة لتجنب الهجر الحقيقي أو المتخيل (لا تتضمن السلوكيات الانتحارية أو إيذاء النفس المدرجة في المعيار 5).

2. نمط من العلاقات الشخصية غير المستقرة والمكثفة التي تتميز بالتناوب بين المواقف المتطرفة من المثالية المفرطة والاستقرار.

3. اضطراب الهوية: عدم استقرار ملحوظ ومستمر في صورة أو مفهوم الذات.

4. الاندفاع في مجالين على الأقل من المحتمل أن يضرا بالشخص (الإنفاق، الجنس، تعاطي المخدرات، القيادة الخطرة، الشراهة عند تناول الطعام). لا ندرج السلوك الانتحاري أو إيذاء النفس المدرجة في المعيار 5.)

5. تكرار السلوكيات أو الإيماءات أو التهديدات الانتحارية أو إيذاء النفس. يحدث الموت عن طريق الانتحار في 8 إلى 10% من هؤلاء الأشخاص، كما أن تشويه الذات (مثل الحروق والجروح) بالإضافة إلى الإيماءات أو التهديدات الانتحارية شائعة جدا. غالبا ما يكون السلوك الانتحاري المتكرر هو سبب طلب الرعاية. غالبا ما يتم التعجيل بأفعال التدمير الذاتي هذه عن طريق التهديد بالانفصال أو الرفض أو عن طريق توقع أن يتحمل الشخص المزيد من المسؤولية. يمكن أن يحدث إيذاء النفس أثناء تجارب الانفصال؛ غالبا ما يريحون الشخص من خلال طمأنته بأنه قادر على الشعور بشيء ما أو من خلال السماح له بالتكفير عن مشاعره السيئة.

6. عدم الاستقرار العاطفي بسبب إعادة تنشيط مزاجي ملحوظ (على سبيل المثال، خلل النطق العرضي الشديد، التهيج، القلق الذي عادة ما يستمر لبضع ساعات ونادرا ما يزيد عن بضعة أيام).

7. مشاعر الفراغ المزمنة.

8. الغضب الشديد وغير المناسب أو صعوبة السيطرة على الغضب (على سبيل المثال، إظهار المزاج السيء بشكل متكرر، الغضب المستمر، أو الشجار المتكرر).

9. حدوث عابر في المواقف العصيبة من التفكير الاضطهادين أو الأعراض الانفصالية الشديدة.

تطور اضطراب الشخصية الحدية:

يستمر اضطراب الشخصية الحدية في التطور طوال فترة الطفولة والمراهقة. ولهذا السبب نتجنب تشخيص هذا الاضطراب في سن مبكرة. وغالبا ما يتم تأكيد التشخيص الإيجابي في سن الرشد (بعد سن 18 سنة)، باستثناء الحالات التي تكون فيها الأعراض حادة واستمرت لمدة زمنية تساوي أو تزيد عن السنة، أين يتم تشخيصها مبكرا.

تطور الشخصية الحدية متغير جدا. والوضع الأكثر شيوعا هو عدم الاستقرار في مرحلة البلوغ المبكر وظهور نوبات ملحوظة من فقدان السيطرة على الاندفاعية.

يستمر ميل الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية الحدية نحو المشاعر الحادة والاندفاعية وشدة العلاقات الشخصية وعدم استقرارها طوال الحياة، غير أن الذين يبدأون منهم العلاج في سن مبكرة (مباشرة بعد ظهور الاضطراب) يظهرون تحسنا كبيرا قد يبدأ خلال السنة الأولى من العلاج. ويصبح معظمهم أكثر استقرارا في علاقاتهم وفي عملهم خلال الثلاثينيات والأربعينيات من العمر. إلى أن يختفي الاضطراب بعد حوالي عشر سنوات من بدأ العلاج لدى ما يقارب نصف المرضى.

خطر الانتحار المرافق لهذا الاضطراب يكون أعلى عند البالغين الشباب، وينخفض بالتدريج بعد ذلك.

غالبا ما يتقدم الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشخصية الحدية للفحص الطبي أو النفسي من أجل اضطرابات مرافقة للاضطراب الأصلي؛ كاضراب القلق أو الاكتئاب، أو مشكلات اجتماعية كالطلاق والانفصال. وهو ما يجعل التشخيص أحيانا يتأخر أو يصبح صعبا.

يجب إجراء فحص شامل للحالة من اجل التقييم الصحيح. يعتمد الفحص على المقابلات العيادية والفحص الاكلينيكي، التاريخ الطبي الشخصي والعائلي، سجل العمل السابق، جمع المعلومات من العائلة والأصدقاء.

سببية اضطراب الشخصية الحدية:

يشيع انتشار اضطراب الشخصية الحدية بين الأشخاص الذين لديهم تاريخ عائلي للإصابة باضطراب الشخصية الحدية. ويشيع أيضا انتشار هذا الاضطراب بمعدل خمسة أضعاف بين الأقارب البيولوجيين من الدرجة الأولى. ويزيد خطر الإصابة به في العائلات التي لها سوابق أو تاريخ من الإدمان على المادة وتعاطي المخدرات، واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، والاضطراب الثنائي القطب.

كما أن الأشخاص الذين يعانون من حالات صحية عقلية أخرى، كاضطرابات القلق أو اضطراب السلوك الغذائي والأكل، أو الاكتئاب أكثر عرضة للإصابة بهذا الاضطراب.

أثبتت أيضا الدراسات العصبية وجود زيادة في تفاعل اللوزة الدماغية (منطقة الدماغ العاطفي) وفي التعديلات على مستوى الناقلات العصبية في الدماغ لدى الأشخاص المصابين باضطراب الشخصية الحدية. بحيث تعجز أجزاء الدماغ التي تتحكم في المشاعر والسلوك عن التواصل (الرتباط) بشكل صحيح وفعّال.

كما أن أحداث الحياة الصعبة والأحداث المؤلمة خاصة في الطفولة كالاعتداء الجسدي أو الجنسي والإهمال والإساءة وخسارة أحد الوالدين في مرحلة الطفولة والصدمات النفسية المبكرة الناجمة عن ضعف الرابط الأمومي أو الانفصال المبكر عنها قد يكون سببا في ظهور هذا الاضطراب.

التشخيص الفارقي لاضطراب الشخصية الحدية

الاضطرابات الاكتئابية والاضطراب الثنائي القطب:

يمكن أن تشبه صورة اضطراب الشخصية الحدية نوبة الاكتئاب أو نوبة الاضطراب ثنائي القطب في أحد قطبيه (الهوس أو الاكتئاب). لذلك من المهم التأكد خلال عملية الفحص من أن نمط السلوك المعني بالفحص كان له بداية مبكرة، وتطور طويل الأمد. كما أن الاضطراب الثنائي القطب يتميز بتقلبات كبيرة في المزاج مستدامة (طويلة نسبيا) وأقل تفاعلية، ويرافقها تغيرات في السلوك وفي الطاقة والنشاط (من ذروة النشاط إلى ذروة الخمول) تختلف كلية عن تلك التي تظهر في اضطراب الشخصية الحدية. بحيث تتغير الحالة المزاجية والسلوك بسرعة كاستجابة لحالة من التوتر الحاد؛ وهو ما يؤثر  على العلاقات الاجتماعية.

اضطرابات الشخصية الأخرى:

إذا كان لدى الشخص سمات شخصية تلبي معايير واحد أو أكثر من الاضطرابات النفسية، بالإضافة إلى الشخصية الحدية، يمكن إجراء جميع التشخيصات في وقت واحد. على الرغم من أن الشخصية المسرحية (الهستيرية) تتميز أيضا بالسعي لجذب الانتباه والسلوك المتلاعب والتأثيرات المتقلبة، في حين الشخصية الحدية تتميز بجانبها المدمر للذات، وبالانهيار العنيف للعلاقات الوثيقة وبمشاعر العمق والوحدة.

قد تكون الأفكار والأوهام الاضطهادية موجودة في الشخصية الحدية ما هو الحال في الشخصية الفصامية ولكن هذه الأعراض أكثر عابرة،

يمكن أيضا أن تتميز الشخصيات البرانويدية والنرجسية بردود فعل غاضبة تجاه المحفزات البسيطة، لكنها تتميز عن الشخصية الحدية بالاستقرار النسبي لصورة الذات، والغياب النسبي لجانب التدمير الذاتي، والاندفاع والخوف من الهجر.

وتتميز الشخصية المعادية للمجتمع، مثل الشخصية الحدية، من خلال السلوك المتلاعب؛ ومع ذلك، في الشخصية المعادية للمجتمع، يهدف التلاعب إلى الحصول على الربح أو السلطة أو الميزة المادية، بينما في الشخصية الحدية يهدف إلى جذب انتباه الأشخاص الذين يعتنون بالمريض.

تغير الشخصية بسبب حالة طبية أخرى:

حيث تُعزى سمات الشخصية التي تظهر إلى تأثيرات حالة طبية أخرى على الجهاز العصبي المركزي.

اضطرابات استخدام المواد:

اضطرابات استخدام المواد (Substance Use Disorders) هي مجموعة من الاضطرابات النفسية والسلوكية التي تنتج عن الاستخدام المفرط أو غير الصحي للمواد المؤثرة على العقل، مثل الكحول، المخدرات، أو حتى الأدوية التي تُستخدم بشكل غير صحيح. تتسبب هذه الاضطرابات في مشكلات جسدية، نفسية، واجتماعية قد تتشابه مع اضطراب الشخصية الحدية.

مشاكل الهوية:

يجب التمييز بين اضطراب الشخصية الحدية ومشكلة الهوية التي يقتصر إطارها على المخاوف المتعلقة بالهوية المرتبطة بمرحلة من النمو (مثل المراهقة) والتي لا تعتبر اضطرابًا عقليًا.

علاج اضطراب الشخصية الحدية:

العلاج النفسي الداعم الديناميكي

أثبتت العديد من العلاجات اليوم فعاليتها في علاج اضطراب الشخصية الحدية، وفي التخفيف من الأعراض وتحسين الأداء العام للمريض ونوعية حياته.

أحيانا تستلزم الحالة الاستشفاء لفترة قصيرة، خاصة إذا كان المريض يعاني من أعراض حادة أو معرضا لخطر الانتحار أو إيذاء الغير.

غالبا ما يرافق اضطراب الشخصية الحدية اضطرابات المزاج، أو اضطرابات القلق، أو تعاطي المخدرات، أو اضطرابات السلوك الغذائي والأكل، أو اضطراب الانتباه وفرط النشاط، أو الاضطراب ثنائي القطب، أو اضطرابات الجسدنة. وهو ما يستدعي تدخلا علاجيا مناسبا لهذه الاضطرابات المشتركة أيضا.

يشمل التدخل العلاجي العلاج العلاج النفسي و/أو العلاج بالأدوية .

العلاج النفسي:

هو العلاج المفضل في اضطراب الشخصية الحدية. يهدف العلاج النفسي إلى مساعدة المريض على اكتشاف دوافعه ومخاوفه المرتبطة بالهجر خاصة، وتأثيرها على أفكاره وسلوكه. كما يساعد العلاج النفسي المريض على تعلّم كيفية التعامل مع الآخرين.

العلاجات النفسية الأكثر فعالية:

العلاج السلوكي المعرفي:

يساعد هذا العلاج مريض الشخصية الحدية على إدراك أفكاره المشوهة وعواطفه المرافقة لهذه التشوهات المعرفية. وتأثير ذلك على السلوك وعلى العلاقات الاجتماعية.

العلاج الجدلي السلوكي:

الذي تم تطويره أصلا لعلاج اضطراب الشخصية الحدية. يركز هذا العلاج على تعليم المريض (المشارك والفعّال) قبول سلوكياته وتحمّل مسؤوليتها وتوابعها. وتعلّم كيفية تغيير حياته والاستغناء عن السلوكيات السلبية والمؤذية. ويعلم العلاج الجدلي السلوكي أيضا مريض الشخصية الحدية مهارات التحكم في المشاعر الشديدة والحد من السلوكيات المدمرة للذات وتحسين العلاقات الاجتماعية.

العلاج الجماعي:

يساعد على التعبير عن العواطف ومشاركتها مع الآخرين، ومناقشة المشاكل الخاصة والتفكير فيها تحت إشراف المعالج النفسي. كما يعلّم هذا العلاج المريض خصوصيات التفاعل الصحيح والسوي مع الآخرين.

العلاج الدوائي:

توصف العديد من الأدوية في بعض الحالات لعلاج أعراض شديدة في الاضطراب. فيمكن وصف مضادات القلق ومضادات الاكتئاب ومثبتات المزاج لتثبيت المزاج أو القلق من الاندفاعية. كما يمكن وصف مضادات الذهان لدى بعض حالات اضطراب الشخصية الحدية الذين يقدمون أعراضا حادة.

قائمة المراجع

Bender DS, Dolan RT, Skodol AE, et al. (2001), Treatment utilization by patients with personality disorders. Am J Psychiatry; 158: 295–302.

DSM 5 (2022)

Gross R, Olfson M, Gameroff M, Shea S, Feder A, Fuentes M, et al. Borderline personality disorder in primary care. Arch Intern Med 2002;162:53-60..

Gunderson JG. Borderline personality disorder: a clinical guide. Washington: American Psychiatric Press; 2003. 32. Paris J, Zweig-Frank H. A

Skodol AE, Gunderson JG, Pfohl B, Widiger TA, Livesley WJ, Siever LJ.(2002) The borderline diagnosis I: psychopathology, comorbidity, and personality structure. Biol Psychiatry ; 51: 936–50.

Skodol AE, Gunderson JG, Shea MT, et al.(2005) The Collaborative Longitudinal Personality Disorders Study (CLPS): overview and implications. J Pers Disord; 19: 487–504.

 year follow-up of patients with borderline personality disorder. Compr Psychiatry 2001;42:482-7.

Zanarini MC, Frankenburg FR, Hennen J, Silk KR.(2003) The longitudinal course of borderline psychopathology: 6-year prospective follow-up of the phenomenology of borderline personality disorder. Am J Psychiatry;160:274-83.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *