تصنيف الاضطرابات النفسية يعد من الموضوعات المهمة في مجال الصحة العقلية و النفسية. حيث يساعد في فهم وتشخيص مختلف الحالات المرضية، . تشمل هذه الاضطرابات مجموعة واسعة من المشكلات النفسية التي تؤثر على التفكير، والسلوك، والمشاعر. وتحتاج إلى تصنيف دقيق لتحديد العلاج المناسب. يساعد تصنيف الاضطرابات النفسية في توفير أدوات فعّالة للأطباء والمتخصصين لفهم أسباب هذه الاضطرابات وكيفية التعامل معها. مما يسهم في تحسين جودة الحياة للمرضى وتقديم الدعم اللازم لهم.
ماهية التصنيف في علم النفس المرضي

يوفر التصنيف في الاضطرابات النفسية والعقلية إطارا تعريفيا ومرجعيا لعملية التشخيص. ولفهم وتقييم والتنبؤ بالأمراض النفسية.
يستخدم المختصين في العلوم النفسية والممارسين النفسيين العديد من نماذج تصنيف الأمراض النفسية والعقلية من أجل تقييم الحالة وتشخيصها. وقد اجتهدت العديد من الجهات العلمية في مجال العلوم النفسية لتطوير دليل لتصنيف الاضطرابات النفسية بهدف مساعدة المختصين في عملية التشخيص. وبالتالي التمكّن من العلاج المناسب لكل تشخيص مقدم.
يوجد اليوم العديد من التصنيفات المعتمدة، وربما أبرزها ما يسمى بالتصنيفات الموثوقة، نجد:
- التصنيف الفرنسي للاضطرابات العقلية (CFTM : Classification française des troubles menteaux)؛
- التصنيف الدولي للأمراض العقلية (CIM :Classification internationale des maladies mentales )؛
- الديل التشخيصي والاحصائي للاضطرابات العقلية (DSM : Manuel diagnostique et statistique des troubles menteaux). الذي وضعته الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين(APA).، وهو اليوم في نسخته الخامسة المعدلة (2022).
- التصنيف الدولي للأمراض (ICD-10) الذي وضعته منظمة الصحة العالمية (OMS)، في نسخته المراجعة الحادية عشرة.
غالبية قوائم التصنيف الموثوقة للاضطرابات النفسية والعقلية تضم فئات تصنيفية مختلفة عن بعضها البعض. كما فرضت الكثير من القيود، وهو ما أدى الى تطوير مناهج تصنيف بديلة، استمدت من التجريب العيادي والاحصاء والثقافة. فنجد الصين مثلا وحسب الثقافة المحلية تستعمل التصنيف الصيني للاضطرابات العقلية، والنمسا وألماني وأحيانا فرنسا وهي الدول التي تتبنى المقاربة التحليلية تستخدم الدليل التشخيصي للتحليل النفسي.
يوجد اليوم جدل علمي كبير حول صحة هذا النظام التصنيفي في مقابل النظام البُعدي (الأبعاد)، وحول دور القيم والثقافة في نماذج التصنيف المتاحة، والأهداف التي صممت لأجلها هذه التصنيفات.
تاريخ تصنيف الاضطرابات النفسية والعقلية
قديما حتى مطلع القرن العشرين:
يعود تصنيف الاضطرابات العقلية إلى العصور القديمة؛ بحيث وصف أبقراط، الذي يعتبر أب الطب، مرض الكآبة كاضطراب في المزاج يتميّز بالحزن العميق وانخفاض الشعور بالقيمة. وبعده برزت أعمال الطبيب النفسي الفرنسي فيليب بينل (Pinel) (1745-1826) الذي قدّم أول تصنيف للاضطرابات العقلية، يتكون من أربعة أصناف: الهوس، المانيخوليا، العته، الخبل (التخلف العقلي). وهو التصنيف الذي وسّع فيه الفرنسي جان إتيان إسكويرول (1772-1840)، وأسس الأشكال المختلفة للكآبة، وميّز بين الهلوسة والأوهام، وفرّق بين الجنون والعواطف.
في القرن التاسع عشر، ومع التقدم في العلوم وفي الطب انتشرت فكرة البحث العلمي والتجريبي بين الأطباء والمختصين في مختلف مجالات العلوم، فظهر عام 1860 تصنيف موريل (Morel) للذهانات والعصابات على أساس الأعراض الاكلينيكية.
ثم أعمال الطبيب النفسي الألماني إميل كريبيلين عام 1906 في وصف وتصنيف الفصام كاضطراب ذهاني، يتميز بفقدان الاتصال بالواقع، والهوس والاكتئاب، وهو اضطراب مزاجي يتميز بفترات من الإسثارة والاكتئاب. هذا الوصف الذي قدمه كرابلين قريب جدا من الوصف الحالي للفصامات.
ثم وصف وشخّص أيضا مرض الألزهايمر عام 1912، كخرف نادر يسبق الشيخوخة وقد يصيب الشباب، وميّزه عن الخرف الوعائي لدى المسنين، الناجم عن نقص الأكسجين بسبب انسداد الأوعية الدموية في مخ. واستمر استعمال مصطلح الخرف الوعائي للاشارة الى خرف الشيخوخة حتى ستينيات القرن العشرين (الخرف الشرياني، القصور الوعائي الدماغي) .
مطلع القرن العشرين
في نهاية القرن التاسع عشر ظهر التصنيف العالمي للأمراض الذي يشرف عليه المكتب الدولي للاحصاء بباريس، والذي يتم مراجعته كل عشر سنوات.
وفي القرن العشرين، استمر تصنيف الاضطرابات النفسية والعقلية في التطور؛ فنجد المكتب الصحي لهيئة الأمم المتحددة بعد الحرب العالمية الأولى بدأ في تصنيف الأمراض، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عام 1948 قدم التصنيف العالمي للأمراض، وقدم معه تصنيف الاضطرابات العقلية في الفصل الخامس من التقرير.
كما نشرت الجمعية الأمريكية للطب النفسي أول دليل تشخيصي وإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM) عام 1952، والذي يتم مراجعته أيضا كل فترة.
يعد تصنيف الاضطرابات النفسية أداة مهمة لمختصي الصحة العقلية والنفسية. فهو يتيح التواصل الفعّال حول الاضطرابات النفسية، ويسهّل البحث في الاضطرابات وفي تطوير العلاجات المناسبة، ويوفر المعلومات والمعرفة للمرضى ولأسرهم وللمختصين.
أهمية تصنيف الاضطرابات العقلية والنفسية
- يعمل التصنيف على توحيد مصطلحات علم النفس المرضي أمام تعددها بالنظر الى المقاربات النفسية التي تنتمي اليها هذه المصطلحات؛
- يسمح أيضا بترتيب وتبويب مواضيع البحث النفسية المرضية لمختلف الفئات المرضية ولمجموع الأعراض؛
- يسهّل التصنيف ممارسة العمل العيادي على المختصين، من خلال جمع الأعراض والمؤشرات العيادية في جداول محددة بالاعتماد على الملاحظة والمقابلة العيادية؛ مما يمكّن من تشخيص الحالة بسهولة؛
- يسمح التصنيف باستخراج أوجه التشابه والاختلاف بين مختلف الاضطرابات، ويمكّن من اجراء التشخيص الفارقي الصحيح، ومن ثم التشخيص الايجابي؛
- يساعد التصنيف على توحيد عملية التشخيص بين الفاعلين في مجال علم النفس المرضي.
طرق التصنيف في علم النفس المرضي
يوجد منهجان أساسيان لتصنيف الاضطرابات في علم النفس المرضي:
التصنيف التناذري (classification syndromique/ syndromic classification): يقوم هذا التصنيف على تنظيم الأعراض والمؤشرات العيادية في متلازمات (تناذرات) فئوية.
التصنيف النفسي المرضي (Psychopathic classification): يعتمد على التصنيف الى وحدات مرضية، ولا يولي اهتماما كبيرا للاضطرابات أو الآليات المشتركة المنظمة للاضطراب.
فنجد الهستيريا والوسواس القهري في التصنيف الكلاسيكي التحليلي ينتميان لنفس فئة العصابات التي تشترك في نواة الصراع الأوديبي وقلق الخصاء وآلية الكبت. في حين أعيد النظر في هذا التصنيف اليوم؛ بحيث نتحدث عن اضطراب الجسدنة في الشخصية الاستعراضية (histrionic personality disorders) والوسواس القهري ضمن اضطرابات القلق (Anxiety disorders)، أو في (Obsessive-compulsive personality disorder) .
عيوب التصنيف في الاضطرابات النفسية

التصنيفات والثقافة
هذه التصنيفات تم اعدادها في سياقات ثقافية واجتماعية خاصة، كالدليل التشخيصي والاحصائي (DSM) في البيئة الأمريكية، والتصنيف الدولي للأمراض العقلية (CIM) في البيئة الفرنسية وغيرها. بحيث أصبحت هذه التصنيفات تثير الجدل في السنوات الأخيرة، لا سياما الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (الأمريكي) في نسخته الأخيرة (DSM-V) ونسخته المعدلة (2022). يعتبر (DSM) الدليل الأكثر استخداما من طرف المختصين في جميع أنحاء العالم، لكنه اليوم لم يعد يحقق الإجماع والقبول العلمي عند جميع المختصين، وأصبح يثير الكثير من الانتقادات.
يعاب على هذه التصنيفات، أنها تجعل من سلوكياتنا اليومية العادية اضطرابات عقلية أو سلوكية. كما أن نموذج هذه التصنيفات ومحتواها لا ينطبق على جميع الثقافات، نظرا لهيمنة الثقافة الأصلية التي أعد فيها التصنيف (الأمريكية، الفرنسية)، وهو ما يعني أنه يتم إقصاء اضطرابات خاصة أو مفاهيم المرض المختلفة في السياقات الثقافية والاجتماعية وحتى الدينية والايديولوجية الأخرى.
هيمنة النموذج الطبي على التصنيفات
التصنيفات قام بوضعها في معضمها أطباء في الطب النفسي أو الطب العصبي. مما جعل التصنيف طبيا محضا، يعتمد فقط على السلوكيات الملاحظة خلال المقابلات العيادية، ولا يأخذ بعين الاعتبار المعاش النفسي للمريض وطريقة تقديم العرض بناء على التربية والثقافة الأصلية للمريض.
يفترض النموذج الطبي أن الاضطرابات العقلية هي أمراض دماغية المنشأ أو أحدثت خللا في الوظيفة الدماغية بسبب خلل في النواقل العصبية، أو عيوب وتشوهات في بنية الدماغ أو في وظائفه، وهي ناتجة عن الوراثة. ويؤكد النموذج الطبي على العلاج الدوائي لاستهداف التشوهات البيولوجية أو الوظيفية العصبية المفترضة. هذا الأمر زاد من استخدام الأدوية النفسية بشكل كبير لفائدة شركات الأدوية، التي تفترض أن هذه الأدوية تصحح الاختلالات الوظيفية أو الكيميائية في الدماغ. وهذا ليس صحيحا بشكل مطلق فالعديد من الاضطرابات النفسية والسلوكية يتم علاجها بشكل فعال بالعلاج النفسي فقط.
الارتكاز على مقاربة وصفية
معظم التصنيفات الموجودة اليوم تم الاعتماد فيها على وصف الأمراض بشكل شبه حصري إما وصف السلوك كما يراه الآباء أو المعلمون والعاملون في المجال الطبي، أو وصف الأعراض كما يراها الأفراد/المرضى أنفسهم. وهذا ما يجعل الوصف ذاتيا، ولا يمكن التحقق منه بشكل موضوعي.
الاعتماد على الوصف أدى أيضا الى اهمال أو انكار كلي لسببية الاضطراب. والاكتفاء فقط بالوصف العرضي الذي يقدمه المريض و/أو يستخرجه الفاحص. يحدث هذا الأمر ارباكا كبيرا أمام استحالة تقديم نفس الجدول العيادي بين مختلف الثقافات؛ أين يأخذ الاضطراب النفسي صبغة ثقافية كبيرة.
كما أن التعبير العرضي عن الاضطراب النفسي يختلف من مقاربة نفسية الى أخرى، وتفسير الأعراض يختلف أيضا.
اختلاف المقاربات المرجعية في تصنيف الاضطرابات النفسية يعتبر عامل انتقاد هام لهذه التصنيفات، ويحدث تناقضا بين التصنيفات بسبب اختلاف مسلمات ومنهجية المقاربات المرجعية (السلوكية، التحليلية والظواهرية وغيرها).
الاضطراب النفسي مفهوم متعدد
هذه الفكرة تقودنا الى استحالة التوصل الى مفهوم واحد للاضطراب النفسي بين جميع المختصين وجميع الممارسين، وفي جميع الثقافات؛ وهو ما يفسّر ظهور واختفاء العديد من الاضطرابات النفسية عبر حقبات زمنية مختلفة، على سبيل المثال. الهستيريا التحولية في القرن التاسع عشر في أوروبا بالمفهوم الذي وصفه فرويد، واختفائها من (DSM 4).
يشير تقرير استقصاءات منظمة الصحة العالمية الى أنه لا يوجد إجماع على تعريف الاضطراب أو المرض النفسي. ويستخدم هذا المصطلح (مرض نفسي) حسب السياق الاجتماعي والثقافي وكذا القانوني في مجتمعات مختلفة، نظرا لأن الكثير من الحالات لم يفصل فيها بعد ان كانت تندرج ضمن سياق السواء أو المرضي. على سبيل المثال، التخلف العقلي، وبعض اضطراب الشخصية، الإدمان، التوحد، متلازمة داون الوشم، وغيرها. ويختلف ذلك من دولة الى أخرى.
كما أن الوثائق الرسمية العيادية الدولية تتجنب استخدام مصطلح “المرض العقلي”. واستبدلته بمصطلح “الاضطراب العقلي” كون المصطلح الأول يدعم سيطرة النموذج الطبي.
يقول بعض المختصين أن هذه التصنيفات ناجمة عن أحكام قيمية. بما في ذلك الفرق بين السواء والمرضي الطبيعي أو الثقافي (المعيار الطبيعي للسواء والاسواء والمعيار الثقافي)؛ بينما يرى بعض الأكاديمين أن هذه التصنيفات موضوعية وعلمية كونها اعتمدت على معايير إحصائية في التصنيف.
تصنيف الاضطرابات النفسية والخصوصيات النفسية للمريض
عند وصف الاضطرابات النفسية، يجب الانتباه الى شيئين وأخذهما بعين الاعتبار:
أولاً، الاضطرابات النفسية تمثل تجارب وسلوكيات داخلية متطرفة وغير متكيفة مع مبدأ الواقع الذي يعرفه ونشأ فيه المريض. فكل واحد منا قد يعاني من نوبات الحزن والقلق والتفكير الزائد في أوقات معينة. لا ينبغي اعتبار هذه النوبات مشكلة إلا إذا أصبحت الأفكار والسلوكيات المصاحبة لها متطرفة ومؤذية للشخص وتؤثر سلبا على أدائه العام. فالأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية أو عقلية هم أكثر من مجرد تجسيد للاضطراب.
ثانيا، نحن لا نستخدم مصطلحات (تشخيصات) مثل الفصام أو الاكتئاب أو الرهابات لأنها تسميات تجعل الأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض موجودين. وتعزيز الافتراضات المتحيزة والمهينة بشأنهم. فالاضطراب النفسي لا يتعلق بشخصية الفرد؛ إنه جزء منها فقط. كما هو الحال مع الربو والسرطان أو مرض السكري.
غالبا ما يعاني الأشخاص باضطرابات نفسية من ظروف نفسية واجتماعية ومهنية منهكة وقاسية ومؤلمة. هؤلاء الأشخاص لم يختاروا المرض، ولم يختاروا أن يكونوا مرضى. لذلك يستحقون أن يتم التعامل معهم (في سياق علاجي أو في سياق الحياة اليومية) باحترام وبأسلوب يحفظ كرامتهم وانسانيتهم.
التصنيف المرضي قد ينسينا أحيانا الانسان الموجود خلف المرض. وقد يلغي بعض المختصين هذا الانسان ككل، فيتم الغاء اسمه وكينونته لتستبدل بملصق تصنيفي مرضي (الفصامي، المتوحد، الرهابي، التجنبي….).
قائمة المراجع
- Albee.G.W. et al. (2004), Mental illness is NOT an “illness like any other; The Journal of Primary Prevention.
- American Psychiatric Association (2013) DSM-5: Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, Fifth Edition. ISBN: 9780890425558.
- Cohen, C. and Timimi, S. (eds.) (2008) Libratory Psychiatry: Philosophy, Politics and Mental Health. Cambridge: Cambridge University Press.
- Doward, Jamie (May 12, 2013). “Medicine’s big new battleground: does mental illness really exist?”. The Guardian. London.
- Masten AS, Curtis WJ (2000). “Integrating competence and psychopathology: pathways toward a comprehensive science of adaptation in development”. Dev. Psychopathol. 12 (3): 529–50. doi:10.1017/S095457940000314X. PMID 11014751. S2CID 27591546.
- Viner R (June 1999). “Putting Stress in Life: Hans Selye and the Making of Stress Theory”. Social Studies of Science. 29 (3): 391–410. doi:10.1177/030631299029003003. JSTOR 285410. S2CID 145291588.
- Watzlawick, P. (1984) The Invented Reality. Norton Books.