القائمة

الذاكرة

شارك المقال

الذاكرة من بين أهم مواضيع علم النفس المعرفي . وهي الأساس الذي تبنى عليه هويتنا؛ فهي تسهل أداء مهامنا اليومية، وترسيخ العلاقات التي تعزّز رفاهيتنا، وحفظ اللحظات المصيرية من تاريخنا الشخصي. ومع ذلك، ليست الذاكرة سجلا لا تشوبه شائبة، بل هي عرضة للنسيان والتحريف. لذا، يمثل فهم كينونتها وآليات عملها خطوة جوهرية لاكتشاف كيف يمكنك تنشيط ذاكرتك، وحمايتها من التلاشي، وتحويلها إلى أداة أكثر فاعلية في رحلتك الحياتية.

التعريف النفسي للذاكرة:

تعرف الذاكرة في علم النفس بأنها منظومة معقدة من العمليات العقلية التي تبدأ باكتساب المعلومات (الترميز)، مرورا بحفظها (التخزين)، وانتهاء بالقدرة على استدعائها عند الحاجة (الاسترجاع). وعلى الرغم من كونها أداة حيوية في حياتنا اليومية، إلا أنها ليست نظاما مثاليا؛ فقد تفشل في تسجيل التفاصيل بدقة، أو تعجز عن استعادة المعلومات في الوقت المناسب، بل وقد تشوّه الذكريات أحيانا.

لا تقتصر مشكلات الذاكرة على الهفوات البسيطة كنسيان موعد مهم، بل قد تصل إلى مؤشرات تنذر بمخاطر صحية جسيمة، كأمراض الخرف ومرض الزهايمر، والتي تضعف بشكل تدريجي القدرة على العيش باستقلالية وتؤثر على جودة الحياة.

طريقة عمل الذاكرة:

وهو ما يسمى بالطريقة المرحلية. حيث لتكوين ذاكرة جديدة، يجب أولا تحويل المعلومات إلى شكلٍ قابلٍ للتخزين عبر عملية تدعى “الترميز”. بعد اكتمال الترميز بنجاح، تحفظ المعلومات في الذاكرة لاستخدامها مستقبلا.

ظلّ العلماء لسنوات يعتقدون أن الذكريات تنشأ من تغييرات في الخلايا العصبية الدماغية، لكنّ الفهم الحديث يُشير إلى أنها تتشكل عبر تعزيز الروابط بين هذه الخلايا أو تكوين روابط جديدة تماما.

ترتبط التعديلات في الروابط بين الخلايا العصبية (المسمّاة بالمشابك العصبية) بعمليتي تعلم المعلومات الجديدة وتخزينها. حيث يساهم تعزيز هذه المشابك في تثبيت المعلومات داخل الذاكرة.

ولهذا السبب تعد المراجعة المتكررة للمعلومات مفتاحا لتحسين استدعائها، فالتكرار يعزز الروابط المشبكية المرتبطة بتلك الذاكرة.

تبقى معظم ذكرياتنا مخفية خارج نطاق الوعي معظم الوقت، ولا تظهر إلا عند الحاجة إليها. فيما تسمح عملية “استرجاع الذاكرة” بإعادة تلك الذكريات إلى حيز الوعي.

الذاكرة إذا تعمل حسب المراحل الثلاث الأساسية: الترميز ثم التخزين فالاسترجاع.

مراحل عمل الذاكرة

دوام الذكريات:

ليست كل الذكريات باقية في أذهاننا، إذ نميل غالبا إلى نسيان كثير مما نتعلمه مع مرور الوقت. بعض الذكريات تكون عابرة جدا، لا تدوم سوى ثوانٍ قليلة، لكنها تلعب دورا مهما في التقاط المعلومات الحسية من البيئة من حولنا.

أما الذكريات قصيرة المدى، فهي تستمر لوقت أطول نسبيا، يتراوح ما بين 20 إلى 30 ثانية. وعادة ما تتكوّن من المعلومات التي يركز عليها الشخص حاليا ويشغل بها تفكيره.

من جهة أخرى، هناك ذكريات يمكن أن تدوم لفترات طويلة تمتد لأيام أو أسابيع، بل وحتى لسنوات وعقود. وغالبا ما تكون هذه الذكريات طويلة المدى خارج دائرة وعينا المباشر، لكنها تظل قابلة للاسترجاع عند الحاجة.

لماذا تبقى الذكريات المؤلمة؟

هل لاحظت أن الذكريات المؤلمة تظل حاضرة في ذهنك لزمن طويل؟ تشير الدراسات إلى أن السبب يعود إلى زيادة الاستثارة البيولوجية خلال المواقف السلبية، مما يجعل تلك الذكريات أكثر ثباتا واستمرارية في الدماغ.

فهم آلية عمل الذاكرة

الذاكرة هي الوظيفة الدماغية التي تمكننا من استيعاب المعلومات وتخزينها واسترجاعها للتفاعل مع العالم من حولنا. إنها تدمج الخبرات الحياتية والمعارف المتراكمة واللحظات المميزة، مما يجعلها حجر الأساس في تشكيل الهوية الفردية والقدرة على التخطيط للمستقبل. بفضل الذاكرة، نتمكن من بناء تصورات ذهنية ورؤى مستقبلية تعتمد على ما اختزناه من ماضينا.

خمسة أنظمة متكاملة

تعمل الذاكرة عبر خمسة أنظمة مترابطة تعتمد كل منها على شبكات عصبية فريدة:

  1. الذاكرة العاملة (قصيرة المدى): مركز المعالجة الفورية للمعلومات.
  2. الذاكرة الدلالية والعرضية: أنظمة الوعي طويل المدى.
  3. الذاكرة الإجرائية: آلية الأتمتة اللاواعية للمهارات.
  4. الذاكرة الإدراكية: المرتبطة بالحواس الخمس.

تصنف هذه الأنظمة تحت مظلة الذاكرة طويلة المدى، مع تمييز بين الذكريات الصريحة (العرضية والدلالية) التي تستدعى بوعي، والذكريات الضمنية (الإجرائية والإدراكية) التي تظهر تلقائيا دون جهد.

الذاكرة العاملة: محور التفاعل اللحظي

هي ذاكرة “اللحظة الراهنة”، المسؤولة عن معالجة المعلومات مؤقتا أثناء أداء المهام، مثل تتبع محادثة أو حل مسألة رياضية. تعتمد على آلتين رئيسيتين:

  • الحلقة الصوتية: تخزين المعلومات المسموعة (كترديد رقم هاتف داخليا).
  • الدفتر البصري-المكاني: تكوين صور ذهنية (كتخيل مسار أثناء القيادة).

تتميز بسعتها المحدودة (5-9 عناصر)، والتي يمكن تعزيزها عبر “التجميع” (مثل تقسيم الرقم 12345678 إلى 12-34-56-78). كما أن ترابط العناصر صوتيا أو معنويا يسهل حفظها (كقائمة كلمات مترابطة مثل “مطر، غيوم، شتاء”).

الذاكرة الدلالية: مكتبة المعارف العالمية

هي مستودع المعرفة المجردة عن العالم، كمعاني الكلمات وقوانين الفيزياء وخصائص الأشياء، دون ارتباط بسياق تعلمها. تتطور هذه الذاكرة باستمرار عبر تجارب الحياة، حيث تدمج المفاهيم الجديدة مع القديمة في شبكة مترابطة. على سبيل المثال، معرفة أن “باريس عاصمة فرنسا” تخزن هنا دون تذكر لحظة تعلّمها تحديدا.

الذاكرة العرضية: سجل السيرة الذاتية

هي أرشيف الأحداث الشخصية التي نمر بها، كذكرى حفل تخرجك أو أول يوم عمل. تتيح هذه الذاكرة “السفر الزمني الذهني”، حيث نستعيد التفاصيل الحسية (كالأصوات والمشاعر) المرتبطة بالحدث. المميز أنها تبدأ بالتكون بين عمر 3-5 سنوات، وترتبط بشدة بالحصين في الدماغ. مع الوقت، تتفكك تفاصيلها الدقيقة، تاركة جوهرا يندمج في الذاكرة الدلالية كمعرفة عامة (مثل نسيان تفاصيل رحلة مدرسية لكن تذكر أن المتاحف أماكن تعليمية).

الذاكرة الإجرائية: برمجة المهارات التلقائية

هي ذاكرة “الجسد” التي تخزن المهارات الحركية، كقيادة السيارة أو العزف على البيانو. تتحكم فيها العقد القاعدية والمخيخ، وتتطلب تكرارا لتصبح تلقائية. مثلا، راكب الدراجة لا يفكر في كيفية التوازن، بل ينفذ الحركة دون وعي. تعرف هذه العملية بـ التصلب العصبي، حيث تتحول المهام المعقدة إلى برامج جاهزة.

الذاكرة الإدراكية: ذاكرة الحواس الخفية

تعمل خلف الكواليس عبر تخزين المنبهات الحسية (كروائح الطفولة أو ملامسة سطح خشن)، وغالبا ما تستدعى لا إراديا. مثلا، قد تتعرف على وجه شخص دون تذكر أين قابلته، أو تجد نفسك تسلك طريقا مألوفا بفضل الإشارات البصرية المخزنة. تتداخل هنا الذاكرة الإدراكية مع الإجرائية لتسهيل المهام الروتينية، مما يحرر العقل للتركيز على أنشطة أكثر تعقيدا.

التكامل بين الأنظمة:

تعمل هذه الأنظمة معا لتحقيق “الكفاءة المعرفية”، حيث تتحول المهام الجديدة إلى إجراءات تلقائية عبر الممارسة، بينما تختزن الحقائق المهمة للاستخدام الفوري. هذا التفاعل الدقيق هو ما يمكننا من التكيف مع البيئة بذكاء، والبناء على الماضي لابتكار المستقبل.

لماذا ننسى بعض الذكريات؟

النسيان ظاهرة شائعة تُدهش الكثيرين. فكم مرّة نسينا اسم شخص أو فوتنا موعدًا هامًا! لكن لماذا نُهمل معلومات تعلمناها مسبقًا؟

أربعة أسباب رئيسية للنسيان:

  • فشل في تخزين الذاكرة
  • التداخل (تزاحم الذكريات)
  • النسيان المقصود
  • فشل في استرجاع المعلومات

تشير الدراسات إلى أن الوقت عامل حاسم في ضعف الذاكرة. فالمعلومات تنسى سريعا إن لم يُراجعها الشخص أو يتدرب عليها. قد تختفي الذكريات لعدم تخزينها بشكل صحيح، أو لتزاحمها مع أخرى، أو لمحاولة الفرد نسيان ما يؤلمه.

كيف يمكن تعزيز الذاكرة؟

مهما كانت ذاكرتك قوية، فهناك خطوات لتحسينها، مثل:

  • دوّن الملاحظات: الكتابة الورقية تثبت الذكرى وتكون مرجعا لاحقا.
  • أضف معنىً: ربط المعلومة بشيء مألوف (كربط اسم جديد بشخص تعرفه) يسهل تذكرها.
  • كرر المعلومة: التكرار ينقل الذاكرة من المدى القصير إلى الطويل.
  • صنّف المعلومات: التصنيف يسهل الاسترجاع.
  • اختبر نفسك: الاختبارات الفعلية أكثر فعالية من المراجعة العادية.
  • استخدم التخيل: تكوين صورة ذهنية (كمكان المفاتيح) يعزز التذكر.
  • احصل على نوم كافٍ: النوم ضروري لتكوين الذكريات.
  • استعن بتقنيات الحفظ: مثل الوسائل المساعدة أو استراتيجيات التذكر.

باستخدام استراتيجيات فعّالة، يمكنك تعزيز ذاكرتك وتجاوز نقاط الضعف. تدريب الدماغ على أساليب جديدة يحسّن القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات واسترجاعها بكفاءة.

  • المراجع:
  • Glachet ou, Hajj M. Propriétés affectives et phénoménologiques des souvenirs autobiographiques induits par les odeurs dans la maladie d’Alzheimer. Journal des sciences du cerveau. 2019; 9(6):135. doi:10.3390/brainsci9060135
  • Conway, M.A. Memory and the self. J. Mem. Lang. 200553, 594–628. [Google Scholar]

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *